البلد الذي ولد عام ١٩٤٣ عرف في عمره القصير، الكثير من الحروب والنزاعات، وما زال. نزاعات طاولت حتى كتابة تاريخه، من فترات الحروب حتى الأيام المسمّاة صلحاً أو سلماً. ما دفع عدداً من المؤرخين والكتّاب إلى إصدار قراءاتهم الخاصة، وتحليلاتهم ورواياتهم لتاريخ لبنان. بالطبع، شكلت تلك الثغرة مادة خصبة للكثير من الفنانين الذين قدموا أعمالاً تشكيلية، وأفلاماً ومسرحيات حاولت ملء جزء من ذلك الفراغ.
أمّا زينة معاصري، فقررت أن تقرأ تلك النزاعات عبر الملصقات التي أصدرتها جميع الأحزاب والأطراف المتنازعة خلال الحرب الأهلية اللبنانية من عام ١٩٧٥ حتى ١٩٩٠. إنّه مشروع أطلقته المصممة اللبنانية والأكاديمية في قسم الغرافيك في «الجامعة الأميركية في بيروت» عام ٢٠٠٣ (الأخبار 28/8/2010).
راحت معاصري تبحث وتجمع تلك الملصقات بعدما تبرّعت بعض الأحزاب والأفراد بقسم منها. من الانتصارات حتى الشهادة وتمجيدها، مروراً بالأيديولوجيات، والزعماء، وتحديد العدو... صور، وشعارات، ورسوم، وألوان، تحكي تاريخ الحرب الأهلية بريشة مَن رسمها مؤرخة الثقافة البصرية لتلك الحرب. جمعت زينة معاصري حوالى 500 ملصق، محاولةً قدر الإمكان أن ترفقها بالمعلومات الأساسية التي تتعلق باسم الناشر (الحزب)، والسنة، واسم المصمّم. وقد أضافت إليها النصوص التحليلية، ثم نشرتها كتاباً في طبعتين بالإنكليزية (IB Tauris) ثم العربية (دار الفرات ــ 2010) تحت عنوان «ملامح النزاع: الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية». أما اليوم، فالحلم الأكبر قد تحقق، وأصبحت جميع المواد مع إضافاتها متوافرة على الموقع الإلكتروني «ملامح النزاع» التي صارت أخيراً على الشبكة بدعم من مؤسسة «هاينريش بول» و«آفاق».



«بعد عمل امتد ثلاث سنوات، أصبح بإمكاني أن أرتاح الآن» تقول معاصري لـ «الأخبار» عن مشروعها الذي اختُتم بالموقع (تنفيذ شركة كوين) المتوافر باللغتين العربية (ترجمة الزميلة ديما شريف) والإنكليزية. كان قرار إصدار نسخة عربية من الموقع ضرورياً بالنسبة إلى معاصري رغم الصعوبات التقنية التي واجهتها، حتى إنّه خُصّص خطّ عربي جديد (فيدرا عربي) في ظلّ ندرة الخطوط العربية الإلكترونية المتوافرة. أما الميزة الكبرى التي أضافها الموقع، فهي توفير مواده تحت رخصة «المشاع الإبداعي». هذا الأخير يخوّل جميع الزوّار تحميل أي مادة يريدونها من الملصقات إلى النصوص والصور. بذلك، فإنّ معاصري تعمّم ذاك الأرشيف والأبحاث التي تطلبت منها مجهوداً كبيراً لجمعها وتحضيرها، وتضعها في خدمة الباحثين والمؤرخين والفنانين وكل مهتم. تلك الملصقات تنطق بتاريخ بلد يمتد على خمس عشرة سنة، ويتكتم الجميع على الخوض في تفاصيله. أما معاصري، فقررت أن تودعها أمانة لجيل مهتم بقراءة تاريخه، وأوكلته مسؤوليتها.
يتمتع الموقع بمحرك بحث سهل ومفصّل وبمساحات إضافية وحيوية منها قسم «المعارض» الذي يقدم المعارض التي قدّمتها معاصري انطلاقاً من الملصقات في «بينالي تيسالونيكي الثالث» في أيلول (سبتمبر) ٢٠١١، وفي «المركز الأندلسي للفن المعاصر» في إشبيلية في تموز (يوليو) ٢٠١١، وفي «بينالي إسطنبول الحادي عشر» عام ٢٠٠٩، وضمن «أشغال داخلية» في بيروت عام ٢٠٠٨. يؤمن قسم «المعارض» صيغة تفاعلية، تخول الزائر مشاهدة الملصقات وفق مسارين: «تسلسل زمني» و«مواضيع ودلالات». كذلك، يضم الموقع قسم «المنشورات» الذي يندرج فيه كتاب «ملامح النزاع: الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية» مع مقدمة للكاتب فواز طرابلسي، ونص لزينة معاصري، إضافةً إلى المقالات والمراجع. أما خانة «المشاريع»، فهي مخصّصة لتوثيق الأعمال التي تستند إلى الأرشيف من أجل أي إنتاج إبداعي أو مشروع بحث أكاديمي. أما القسم الأكثر حيوية الذي تعوّل عليه معاصري، فهو «مدونة» الموقع التي تشكّل منصة للنقاش والحوار حول القضايا المتعلقة بالعلاقة بين السياسة ومجالات الثقافة البصرية، والتصميم والإعلام في العالم العربي، والمشاركة مفتوحة للجميع بمختلف الأشكال. بذلك، يشكل «ملامح النزاع» موقعاً يجمع بين أرشيف الماضي المعمّم للجميع، ومساحة لقراءة ونقاش الماضي والحاضر والمستقبل كي لا يتحوّل الأخير إلى مقبرة للملصقات والتاريخ.
http://signsofconflict.com




من المؤكد أنّ جمع الملصقات كانت خطوة قيمة من حيث أهمية دلالاتها السياسية والإجتماعية والفنية. لكنّ معاصري على يقين أن سبل قراءة ذاك الأرشيف بتعقيداته لا يمكن حصرها، بل إنّ تنوعها يعمّق محاولة فهم التاريخ. من هنا، تدعو المهتمين إلى خلق الأطر التي يجدونها مناسبة لكتابة وتحليل التاريخ والمستقبل إنطلاقاً من هذه الملصقات السياسية. هكذا كانت تجربة الفنان اللبناني ربيع مروة الذي إستعان بذلك الأرشيف كمادة سينوغرافية أساسية في عرضه «لكم تمنت نانسي لو أن كل ما حدث لم يكن سوى كذبة نيسان» (٢٠٠٨). حينها أوكل مروة إلى مصممة الغرافيك سمر معكرون مهمة تحويل جزء كبير من ذاك الأرشيف إلى ملصقات تخص أربعة مقاتلين/ ممثلين يسردون على المسرح فصولاً من الحرب الأهلية شاركوا فيها متنقلين بين المعارك والأحزاب. تلك المداخلة الفنية للملصقات وطريقة عرضها على المسرح، أظهرتا بعداً مختلفاً في قراءة دلالاتها، وخطابها السياسي. ذلك العرض يشكل حتى الآن المادة الوحيدة المسجّلة على الموقع ضمن خانة «مشاريع» لكنها ليست سوى بداية تنتظر أطراً، ومعالجات، وقراءات مختلفة ومتنوعة.