«إن المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره. ولكن عن أي مسرح أتكلم؟! هل أحلم، أم هل أستثير الحنين إلى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثاً يفجر في المدينة الحوار والمتعة! لا يجوز أن نخادع أنفسنا، فالمسرح يتقهقر. وكيفما تطلعتُ، فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها، وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة، بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الأضواء، والشاشات الملونة، والتفاهات المعلبة. لا أعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي. فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة، والرعاية التي كان يحاط بها، تحولت إلى إهمال شبيه بالازدراء، غالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق. وما دمنا لا نريد أن نخادع أنفسنا، فعلينا الاعتراف، بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني، الذي يهبنا فسحة للتأمل، والحوار، ووعي انتمائنا الإنساني العميق. وأزمة المسرح، رغم خصوصيتها، هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة. ولا أظن أننا نحتاج إلى البرهنة على أزمة الثقافة، وما تعانيه هي الأخرى من حصار وتهميش شبه منهجيين. وإنها لمفارقة غريبة أن يتم ذلك كله، في الوقت الذي توفرت فيه ثروات حولت العالم إلى قرية واحدة، وجعلت العولمة واقعاً يتبلور، ويتأكد يوماً بعد يوم. ومع هذه التحولات، وتراكم تلك الثروات، كان المرء يأمل أن تتحقق تلك اليوتوبيا، التي طالما حلم بها الإنسان. يوتوبيا أن نحيا في عالم واحد متضافر. تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن، وتزدهر فيه إنسانية الإنسان دون حيفٍ أو عدوان. ولكن... يا للخيبة!فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين، تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا، التي بشر بها الفلاسفة، وغذت رؤى الإنسان عبر القرون. فهي تزيد الغبن في الثروات وتعمق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى، والشعوب الفقيرة والجائعة. كما أنها تدمر دون رحمة، كل أشكال التلاحم داخل الجماعات، وتمزقها إلى أفراد تضنيهم الوحدة والكآبة. ولأنه لا يوجد أي تصور عن المستقبل، ولأن البشر وربما لأول مرة في العالم، لم يعودوا يجرؤون على الحلم، فإن الشرط الإنساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتماً ومحبطاً. وقد نفهم بشكل أفضل مغزى تهميش الثقافة، حيث ندرك أنه في الوقت الذي غدت فيه شروط الثورة معقدة وصعبة، فإن الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسية لمواجهة هذه العولمة الأنانية، والخالية من أي بعدٍ إنساني. الثقافة هي التي يمكن أن تبلور المواقف، التي تعري ما يحدث وتكشف آلياته. وهي التي يمكن أن تعين الإنسان على استعادة إنسانيته، وأن تقترح له الأفكار والمثل، التي تجعله أكثر حرية ووعياً وجمالاً. وفي هذا الإطار، فإن للمسرح دوراً جوهرياً في إنجاز هذه المهام النقدية والإبداعية، التي تتصدى لها الثقافة. المسرح هو الذي سيدرّبنا، عبر المشاركة والأمثولة، على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة. وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً. وأنا أؤمن أن بدء الحوار الجاد والشامل، هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن، إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ ...». سعد الله ونوس ــ من «رسالة يوم المسرح العالمي» (1996).
حديثاً بدأت أسئلة كثيرة تخترقني. على رأسها: ما جدوى كل ما نقوم به – ما أقوم به؟ وخاصةً في مجال العمل والفضاء الذي اخترت أن أكون فيه ألا وهو المسرح.
لا أتذكر تماماً ما الذي دفعني إلى التواصل مع هذا الفضاء – وإذ أوردته بهذا المعنى «الفضاء» فليس لمعناه العلمي أو الفكري/ الأدبي للكلمة وإنما لشعوري الذاتي تجاهه – كل ما أتذكره هو العمل مع مجموعة من الشباب الذين لا يمكنك أن تطلق كلمة «هاوٍ» عليهم. لكن شعور اللذة على اختلاف أصعدتها؛ التورط أكثر فأكثر في جموع كلمات، أفكار، معانٍ، دلالات، أحداث، صراع... أسئلة ثم أسئلة ثم أسئلة. وجدت نفسي معلقاً بكامل إرادتي على طواحين عالم لا يشبه نفسه... حاولت العوم والتجديف بأقصى ما لدي. بذلت جهداً كي أكتشف الجزيرة وحدي، قبل غيري... أردت اكتساب كل شيء لي وحدي. لكن التعب أرخى بظله مبكراً على كتفيّ. كنت أظن نفسي بطلاً وشجاعاً... سأكسب طروادة بمخالبي... أصير أسطورة مجنحة.
لكن جرحي الصغير أدماني. أطاح بي ساقطاً على رأسي، غارقاً بين طيات ما كنت أظنني أعرفه. كنت أظن... لا أكثر!
وفي غرقي تعلمت حقاً معنى العوم. بدأت أستشعر مساماتي من جديد، وبدأت أتعرف على نفسي حقاً.
من أنا؟
ولماذا؟
جرحي الصغير أدماني، أطاح بي ساقطاً على رأسي

إلى أين؟ وكيف؟ وما الجدوى؟!
لا يهم! ما يهم حقاً أنني ــ أننا ــ هنا.
ما يهم الآن أن أؤمن أن عليّ تقديم كل ما يمكن. حتى يصلني كل ما آمل.
لست خائفاً من الموت! الموت شيء ثانوي اللحظة. الموت هو زائر غريب. أتخيله ولا أدركه. بداية لما كان قد انتهى.
ما يقتلني حقاً هو أن لا أكون.
أستطيع الآن تحسس ألفاظكم وسخريتكم. أستطيع استنشاق كل مشاعر الغيظ واللؤم. لكنني مثلكم أحب لعبة البصاق على الوجوه، ولن أنكر اليوم أنني هزمت بآخر جولة خضتها. لقد قتل الوزير في رقعتي وبات مليكي هائماً في العراء.
وما زلت أنا هائماً بين مفرداتي... كلما حاولت النهوض كلما غصت أكثر واكتشفت ما أكونه.
كلما تعلمت وأيقنت بأنه لا بد لي من أن أحارب حتى ولو طواحين الهواء. لابد أن آخذ مكاني.
أتأهب وأواجه نفسي، ظلي، وتخاريفي... لترسيخها في ما ينبغي/ أفضل ما يمكن أن تكون عليه، ولربما هذا صعب المنال. لربما جننت! نعم أطالب بالكمال وأنا لست سوى هنا بينكم – بين نفسي -
لطالما تساءلت لم؟
ولطالما كان الجواب بسيطاً. لكي أعيش... لكي أنجو... لكي أكون.
وما زلت مدركاً بأنني لم أركب حتى الآن سوى موجة أو اثنتين لا أكثر. لكنني مدرك أنني كلما غصت في القاع كلما عمت على السطح أكثر. عليّ فقط أن أحاول.
«من يناضل ربما يخسر ومن لم يناضل فهو خاسر بكل الأحوال» - برتولت بريشت.
* مخرج وكاتب مسرحي سوري