بعد 24 عاماً على إخراجه فيلم «جميلة» (1958) المشهور في مصر بعنوان «جميلة أبو حريد»، وفي الجزائر بعنوان «جميلة بوحيرد»، يفشي يوسف شاهين (1926 ـ 2008) سراً في فيلمه/ سيرته الذاتية «حدوتة مصرية» (1982) الذي تعرّض فيه لتجربة صنع «جميلة»: في المشهد الذي يحتفي فيه الجمهور الروسي بفيلم «جميلة»، ومخرجه شاهين ونجمته ماجدة الصباحي، يتحدث صديقا المخرج، فيسأل الأول (سيف عبد الرحمن): «هو صحيح صوّر الفيلم في الجزائر؟».
يجيب الثاني (محمد منير): «ولا يعرف هي فين ع الخريطة!». فاز فيلم «جميلة» آنذاك بجائزة «مهرجان موسكو السينمائي» (دورة 1959).
حاول شاهين في «حدوتة مصرية» أن يصلح «خطأه» المعرفي القديم بخصوص الجزائر، فدفع بالبطل يحيى (نور الشريف) في المشهد التالي إلى زيارة البلد الثائر رغم المخاطر والرصاص. لم يحمل الفيلم رسمياً أيّاً من الأسماء المعروفة عن المناضلة الشهيرة، ليس «جميلة» ولا «أبو حريد» ولا «بوحيرد». اسمه كان «جميلة الجزائرية»، وحمل أفيش الفيلم عبارة ربما ظنّ واضعوها أنها ستجذب الجمهور «قصة فتاة خفق قلبها بالحب لكنها ضحّت به من أجل الوطن»، وتحت الحروف الكبيرة لكلمة «جميلة» والأصغر كثيراً لكلمة «الجزائرية»، يسرد الأفيش أربعة أسماء كبيرة يقول إنّها «أعدت السيناريو والحوار عن القصة الحقيقية»، وهم يوسف السباعي، عبد الرحمن الشرقاوي، نجيب محفوظ وعلي الزرقاني.
هي أسماء كبيرة حقاً، وإن سقط السباعي سهواً في ما بعد من معظم المراجع السينمائية، لكن الفيلم الذي جاء حماسياً مناسباً لتلك الأجواء التحررية في ذروة صعود المد القومي (إنه نفس عام الوحدة بين مصر وسوريا) لم يعبّر في واقع الأمر عن القوة الفنية لكتّابه خصوصاً، وصناعه عموماً. وبالنظر إلى أنّ 1958 هو العام الذي قدم فيه شاهين تحفته «باب الحديد»، فإنه قد لا تجوز حتى المقارنة الفنية بين الفيلمين، وإن اختير كليهما في «قائمة أهم فيلم مصري» المعلنة عام 1996.
تأتي أهمية «جميلة» في حياة مخرجها بأنّها لفتت انتباهه إلى قضايا أوسع من الشأن المصري الخاص، إلى التاريخ والسياسة. لقد بدأ العقد الذي انتظمت فيه لاحقاً حبّات «الناصر صلاح الدين» ثم «الأرض» و«العصفور» وغيرها. أما في «جميلة»، الذي أنتجته بطلته عبر شركتها «أفلام ماجدة»، فقد بدت فيه الشخصيات نمطية، «أبيض وأسود» كما صرّح شاهين نفسه في أحاديث صحافية، موضحاً أن أكبر أثر جماهيري للفيلم، كان خروج الجمهور الغاضب من السينما إلى محاصرة سفارة «المستعمر» الفرنسي الذي رحل بعد ذلك ــ عن الجزائر ــ بأربع سنوات.
أما عن الشريط نفسه، فبين الكثير من الأناشيد الوطنية الفصيحة، والسرد الجَهوري لتاريخ الاستيطان الفرنسي للجزائر، تظهر حكاية التلميذة جميلة (ماجدة) في مدرستها الفرنسية في حي القصبة في الجزائر. تتعرف إلى النضال عبر زميلتها أمينة (تهاني راشد) الفتاة المقاومة التي يجري اعتقالها داخل الفصل الدراسي، وسرعان ما تكتشف جميلة علاقة عمها (فاخر فاخر) الذي تقيم معه بالمقاومة، وتتعرف عن طريقه إلى أحد قادة الفدائيين يوسف (أحمد مظهر)، وتنخرط معه في المقاومة، وتكاد تنخرط في الحب أيضاً، لولا أن «حبّ الجزائر ملأ قلبها» كما يليق بفيلم حماسي. يسرد الشريط فظائع الفرنسيين ومجازرهم الجزائرية، وسط هتافهم باللهجة المصرية ككامل الشريط «ما فيش حاجة اسمها جزائر، فيه فرنسا وبس».
تُعتقل جميلة في النهاية، تتعرض لتعذيب بشع على يد الضابط الفرنسي بيغار (رشدي أباظة). تُقدم إلى محاكمة صورية، يُقتل الشهود الذين يُحضرهم جاك فيرجيس (محمود المليجي) المحامي الفرنسي الشهير في ما بعد، وتصدر المحكمة حكمها المتوقع على جميلة بالإعدام. الحُكم الذي «مش ها يمنع الجزائر من الاستقلال، ومن إنها تاخد مكانها تحت الشمس» حسب إعلان جميلة بصوت ماجدة في اللقطة الأخيرة من الفيلم، وهو ما كان ــ لحسن الحظ ـ مصير الواقع أيضاً.
يبقى الخلاف حول فيلم «جميلة الجزائرية» قائماً في التقويم الفني، أو من زاوية علاقة الفيلم بالحقيقة، المؤكد أنّه كان إحدى الحالات النادرة التي خرجت فيها السينما المصرية إلى حكايات خارج الحدود.