باريس | جميلة بوحيرد (1935) التي تكرّمها قناة «الميادين» الليلة في «عاصمة المقاومة»، كما يحلو للمناضلة المعروفة أن تسمّي بيروت، ليست واحدة من بطلات الثورة الجزائرية فقط. إنّها أحد أبرز وجوه الزمن العربي الجميل. أيقونة وُلدت في أتون نضال التحرّر الوطني من الاستعمار، وخصّها يوسف شاهين بفيلمه الشهير (جميلة ـ 1958)، وتغزّل نزار قباني بجسدها الخُمري الأسمر الذي «جلد مقصلة الجلاد». لكنها تحوّلت بعد استقلال بلادها إلى نموذج محزن للتهميش الذي تعانيه المناضلات بسبب العقليات الذكورية المهيمنة. دخلت جميلة بوحيرد الأسطورة في الثانية والعشرين، حين قُبض عليها عام 1957، إثر سلسلة تفجيرات نفذتها «جميلات الثورة الجزائرية» الثلاث (بوحيرد ـ بوباشا ـ بوعزة)، وأقضّت مضجع الجنرال مارسيل بيجار. كان قائد «معركة الجزائر» ياسيف سعدي قد استقطب الجميلات الثلاث، بعدما منحت السلطات الاستعمارية «الصلاحيات المطلقة» لقوات المظليين لسحق ثوار «جبهة التحرير» بكل الوسائل، بما فيها الأساليب الأكثر خساسة، كالتعذيب والاغتصاب. مع دخول «الجميلات» خط المواجهة، ابتكرت الثورة الجزائرية شكلاً جديداً من المقاومة الشعبية تمثل في زرع القنابل في الملاهي والمقاهي «من أجل نقل الخوف إلى المعسكر المعادي»، معسكر «المعمّرين» (المستوطنين الأوروبيين) وأذيال الاحتلال.

بعد أشهر من التقصي والمطاردة، وقعت بوحيرد في كمين لقوات المظليين في حيّ القصبة بعدما أُصيبت برصاصة في الكتف. لم ينتظر رجال بيجار أن تتماثل للشفاء، بل شرعوا في تعذيبها في المستشفى. وحين لم تفلح «وسائل التعنيف التقليدية» في كسر كبريائها، نُقلت إلى مركز تعذيب متخصص في حي «الأبيار» في أعالي العاصمة الجزائرية، حيث كانت أول مناضلة أُخضعت للتعذيب بالكهرباء.
فوجئ الجلادون بأنهم كلّما تفنّنوا في إخضاع جسدها النحيل لصنوف الإهانة والتنكيل، ازدادت قدرتها على المقاومة. ولم يفهم أحد سرّ تمسكها بترديد الجملة ذاتها، كلما أُخضعت للمساءلة: «لا، لا. الجزائر هي أمي!». بعد جلاء الاستعمار وخروجها من المعتقل عام 1962، فسّرت سرّ تلك الجملة الغريبة، قائلة إنّ أول موقف اصطدمت خلاله بالعقلية الاستعمارية كان في سن السابعة، حين التحقت بالمدرسة الفرنسية. قبل بدء الدروس، كان مدير المدرسة يجمع التلاميذ لغناء نشيد «فرنسا أُمّنا». وإذا به يفاجئ ذات صباح بفتاة نحيفة تخرج من بين الصفوف لتصرخ: «لا، لا. الجزائر هي أُمي!». أمسك المدير بالتلميذة المتمردة، وظل يهز جسدها معنفاً لإرغامها على قول «فرنسا أُمنا». لكنها كانت تردد «لا، لا. الجزائر هي أمي!».
بعد أكثر من شهرين أمضتهما في التعذيب، لم ينجح الجلادون في انتزاع أي اعتراف منها، فحُوِّلت إلى السجن العسكري في وهران، تمهيداً لمحاكمتها. في المحكمة، وقف محام شاب قصير القامة، اسمه جاك فيرجيس، ليرافع طويلاً في الفرق بين الإرهاب والمقاومة الشعبية، مطلقاً مقولته الشهيرة: «إن واضعي القنابل فدائيون وليسوا قتلة أو إرهابيين. قنابلهم عبارة عن علامات استفهام يضعونها أمام الضمير الإنساني، لإرغام العالم على الالتفات إلى قضيتهم». وقبل أن تستفيق هيئة المحكمة العسكرية من صدمة المرافعة الاستفزازية، فوجئت ببوحيرد تحتجّ قائلة: «لستُ مجرد واضعة قنابل، أنا مناضلة في جبهة التحرير». كانت تلك أول مرة يُقدم فيها مُتَّهم على المجاهرة أمام المحكمة بانتمائه إلى صفوف الثورة الجزائرية، ما دفع القضاة إلى الانتقام بإنزال العقوبة القصوى بجميلة: حكم بالإعدام تقرّر تنفيذه يوم 7 آذار (مارس) 1958.
لكن جاك فيرجيس (1925 ـ 2013) أدرك مبكراً أنّ المعارك في المحاكم العسكرية الاستعمارية لا تُكسب أمام القضاة، بل أمام الرأي العام. طار «الوغد المضيء» إلى باريس، ليصدر كتاباً مدوياً بعنوان «من أجل جميلة بوحيرد» يروي قصة موكلته ويستعرض ما تعرّضت له من صنوف الإهانة والتعذيب. أدى الكتاب دوراً بارزاً في فتح أعين الرأي العام والمثقفين في فرنسا على ما كان يُقترف من جرائم باسم بلادهم على الضفة الأخرى للمتوسط. حسم مثقفون بارزون في مقدمتهم جان بول سارتر، موقفهم من الثورة، وأطلقوا حملة للتضامن مع بوحيرد ومع «جميلات» الثورة الجزائرية الأخريات. وإذا بتلك الحملة تنجح في وضع قضية بوحيرد على جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 1957، بعدما تلقت اللجنة ملايين البرقيات من العالم للمطالبة بإنقاذ «جان دارك الجزائر». واضطرت السلطات الاستعمارية إلى تخفيف حكم الإعدام إلى السجن المؤبد لتبقى جميلة في المعتقل لغاية استقلال بلادها عام 1962. حتى اليوم، ما زالت جميلة تحتفظ بالكثير من صلابة الموقف وصفاء الرؤية. قبل أسابيع، خرجت عن صمتها بعد سنوات من العزلة بتصريح مدوٍّ اعترضت فيه على مشاريع إعادة ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رابعة، مهددة بالنزول إلى الشارع للتظاهر إن أصرّ أنصاره على التمديد!
كانت تدرك جيداً أن هذا الموقف سيثير نقمة «المافيا الرئاسية» التي شرعت منذ الصيف الماضي في تفكيك كل مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية التي تجرأت على الاعتراض على بقاء «الرجل المريض» في الحكم. لم يتأخر ردّ فعل الآلة الدعائية الرسمية. مع اقتراب ذكرى انطلاق الثورة الجزائرية في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، خشيت «مصالح الرئاسة» أن تستغل بوحيرد الحفاوة الإعلامية التي تحظى بها عادة في مناسبات مماثلة لرشق الرئيس بحصى النقد، فأطلقت «شائعة شبه رسمية» بأنّها توفيت في يوم ذكرى الثورة!
لم تكن هذه أول مرة تصطدم فيها بوحيرد بحمّالة حطب النظام الحاكم. في ذروة مواجهتها السرطان عام 2009، اضطُرت إلى إصدار نداء إلى الشعب الجزائري أوضحت فيه أنها لا تملك ثمن العلاج، وأن الأنفة تمنعها من قبول عروض حكومات صديقة للتكفل بمصاريف علاجها، فيما تتجاهل حكومة الجزائر وضعها الصحي. أثارت تلك القضية جدلاً، فأُطلقت فوراً حملة استكتاب شعبية جمعت مبالغ تفوق ما تحتاجه جميلة بوحيرد للعلاج، ما دفعها إلى «إنشاء صندوق لرعاية «المجاهدين الحقيقيين» (قدامى مقاتلي الثورة الجزائرية) الذين يعانون الفقر والتهميش، فيما تذهب مليارات ريع النفط إلى جيوب المافيات الحاكمة». وجاء ردّ فعل النظام قاسية. أُطلقت حملة تخوين اتهمت بوحيرد بإثارة تلك الضجة بإيعاز من جهات معادية للإساءة الى صورة الجزائر في المحافل الدولية!
لم يكن بوتفليقة أول «وحش» يخوض معركة غير مشرفة ضد جميلة. عانت طويلاً من التهميش والعقلية الذكورية. عام 1989، حين سُمح للرئيس الراحل أحمد بن بلة بالعودة إلى الجزائر بعد عقدين من المنفى، أقيمت على شرفه احتفالية من قبل قدامى مجاهدي حرب التحرير. وحالما أبصر بوحيرد، حتى ركض تجاهها، وارتمى في احضانها باكياً، قائلاً: «سامحيني يا أختي، لقد ظلمتك كثيراً»! لم يفهم أحد عن أي ظلم تحدث الرئيس بن بلة، إذ لم تتعرض بوحيرد لأي مضايقات في عهده (1962 ـ 1965). اعترف لها لاحقاً بأنه لم يندم على شيء في حياته بقدر ندمه على الإساءة التي سبّبها لها أيام كان في الحكم: «كلما استقبلتُ ضيفاً أو رئيس دولة، كان أول ما يفعله السؤال عنك إلى أن انزعجت ودبّت في نفسي الغيرة، فكنتُ ـ سامحني الله ـ أقول لكل من يسأل عنك إنك غادرت البلاد، بعد زواجك بجاك فيرجيس، وأصبحت تقيمين في باريس»!


* تكريم جميلة بوحيرد: 19:00 مساء اليوم ـــ «قصر الأونيسكو» (بيروت)




zoom | «الميادين»: جدارة الحياة


اختارت قناة «الميادين» الفضائية «جدارة الحياة» عنواناًَ للاحتفال التكريمي الذي تقيمه للمناضلة جميلة بوحيرد في السابعة من مساء اليوم في «قصر الأونيسكو» في بيروت. تبدأ التغطية مباشرة على الهواء بدءاً من السادسة مساءً من قاعة «الأونيسكو» الخارجية مع تقارير عن بوحيرد، وبروموهات، مقابلات مع الحضور. ويفتتح الاحتفال في السابعة مساء بالنشيدين اللبناني والجزائري، تليه كلمة لرئيس مجلس إدارة المحطة الإعلامي غسان بن جدو، ثم تقديم الدرع إلى المكرّمة مع كلمة لها، كما تتخلل الاحتفال كلمات لكل من اليدا تشي غيفارا، والشاعر اللبناني غسان مطر، وفقرة لكورال «الفيحاء»، إضافة إلى عرض كليبات وبروموهات، وشهادات مسجّلة لشخصيات عرفت المناضلة عن كثب.