دمشق | كانت «الطريق» في نسختها الأولى، واحدة من النوافذ القليلة في الشارع الثقافي السوري إلى الثقافة النوعية. بين صفحاتها قرأنا بنهم أسماء الكبار، ومعنى أن يعبر النص السوري المغاير والمارق إلى بيروت، في وقت كانت فيه المجلات الثقافية السورية الرسمية حكراً على نصوص منتوفة الريش، ومشبعة بالرطانة، وعلامة حسن السلوك. «وصلت مجلة الطريق»، يخبرك المكتبي الذي يعرف زبائنه جيداً، بالكاد تحجز نسختك، وتلتهمها على عجل، ثم تعود إليها مرّة أخرى، تتأمل رنين الأسماء ونشوة الخطاب اليساري في صعوده سلّم الغد المشرق، ومعنى أن تكون ماركسياً حقاً.
فجأة احتجبت المجلة بصعود مجلات الزيت، واحتضار مجلة «الآداب» التي توقفت هي الأخرى كمحصلة لحصار الخطاب المضاد. لم أكن أعرف محمد دكروب عن قرب. مكالمة تلفونية واحدة ألغت المسافة بيننا، لجهة الهيبة منه إذ كانت سيرته كمثقف ماركسي شرس. واعدته في مقهى «الروضة» الدمشقي. كان يستعد لإصدار النسخة الثانية من «الطريق»، وقد طلب مني أن أكتب له «رسالة دمشق». اتفقنا على الفور. حماسته لمواكبة اللحظة العربية الجديدة، أصابتني بالعدوى، بالإضافة إلى هيبة «الطريق» التي كنت أتابعها قبل احتجابها، لكن «مرح» محمد دكروب كان السبب الأساسي لحماستي. هكذا تبخّرت أفكاري القديمة والجاهزة عنه، بخصوص «الواقعية الاشتراكية»، والماركسية المتشدّدة، فهذا الرجل كائن آخر، كائن طليق، من دون قيود إيديولوجية صارمة، كما توهمت. لفرط حماستي أيضاً، كتبت فوراً مقالاً بعنوان «المريض السوري: تمرينات شاقة على تعلّم النطق» في تشريح الحراك السوري، وظهر في العدد الثاني، بسبب خطأ في البريد الأول. على الهاتف كان سعيداً بنفاد العدد من المكتبات الدمشقية، فقارئ «الطريق» ما زال حيّاً. كان الرجل الثمانيني أكثر شباباً مني، أو على وجه الدقة، أقل يأساً. لذلك لم يتردّد في افتتاحية العدد الأول في أن يكتب «تستأنف هذه المجلة الفكرية العريقة مسيرتها في شقّ الطريق إلى المستقبل». المستقبل؟ أجل كان واثقاً بأن مجلته ستستعيد مكانها ومكانتها في واجهات المكتبات. نحن ـ وفقاً لما كتبه ـ أحوج ما نكون إلى «مجلة ديمقراطية تؤسس لزمن عربي جديد ومختلف». ديمقراطية محمد دكروب تعثّرت بعد خطواتها الأولى، فالطريق إلى المستقبل لم يكن كما توقّع، و«الربيع العربي» أزهر دماً وفتاوى ومقاولات. انكفأ الرجل وبدا اليسار الذي راهن عليه بقدمٍ عرجاء. أما فكرة التنوير، فقد انطفأت على يد فقهاء الظلام، فقرر الرحيل. وداعاً محمد دكروب، أيها الرجل النبيل.