لم يُعرف عن العراق في تاريخه الحديث أنّه صاحب مؤسسات اعلامية راسخة خلافاً لمصر ولبنان اللذين امتلكا باكراً مؤسسات كبرى كـ «الأهرام» في مصر، وإنّ بأصل لبناني غير خاف، و«النهار» في لبنان، ولاحقاً صحف أخرى لا تقل رسوخاً. تحولت بيروت، بعدها، الى واحة خضراء لحرية عزيزة المنال في عالم لا يعرف سوى الاستبداد.
هذه المؤسسات ثم دور النشر الكبرى في لبنان، السينما في مصر، وإعادة توجيه مؤسسات الدولة في مصر باتجاه يخدم الثقافة نفسها ويرسخ فكرة الدولة ذاتها في مخيلة المصري، قد أسهمت في ترسيخ الثقافة وتداولها، ربما لأجل ذلك، نشأت حكاية أنّ مصر تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ. ورغم أنّ الحكاية تحمل قدراً لافتاً من التعسف للعراق ولبنان على السواء، فان قضية أنّ العراقيين قراء بطبعهم تحمل قدراً من الواقعية. وفرة القراء المنسجمة مع كفاءة عراقية لافتة اعطت البلاد ريادة مميزة في الصحافة. «الزوراء» الصحيفة العراقية الاولى، صدر عددها الاول عام 1869 بأسبقية واضحة على صحيفة «الاهرام». وليس القصد هنا التنطح بريادة لم تقدم الكثير للبلاد. المهم ان نرى بوضوح ما حدث لاحقاً: «الاهرام» تحولت الى مؤسسة عملاقة لا يعيبها سوى ارتباطها بالدولة المصرية، بينما انتهت قصة «الزوراء» واصبحت جزءاً من ماض لا يرغب كثيرون بتذكره. ولم تنفع كثيراً الكفاءة ولا وفرة القراء. ما كان حاسماً دوماً هو التحولات الكارثية للبلاد التي قوضت باستمرار أي استقرار سياسي – ثقافي مفترض، وجعلت فكرة المؤسسات ضرباً من الخيال المريض. في عراق صدام، أسس الرئيس الرهيب جمهوريته المرعبة بمذابح متنقلة، في الساحات العامة مثلما في الغرف المغلقة. فكّر مبكراً في احتكار الصحافة. اراد احتكار حق رواية الخبر. هكذا، أصدر قانوناً "نظم " بموجبه عمل الصحافة، والنتيجة الاطاحة بعدد لا بأس به من الصحف المستقلة. والاهم أنّه اغتال الحرية المتاحة بعد عقد رهيب من الثورة العراقية. وبدلاً من قصص الناس، أصبح لدينا حكاية واحدة. إنّها حكاية الديكتاتور وكفى. قصة واحدة بعنوان فريد: الديكتاتور. ليس هناك من قصة أخرى. الغريب أنّ القصة الاخرى، حكاية موت الديكتاتور، أو سقوطه المدوي، لا تختلف كثيراً عن قصة البلاد العجيبة. فان الجدالات الصاخبة التي اعقبت احتلال البلاد كررت بفانتازيا فذة، لحظة البيان الاول، ولكن بصيغ أخرى. بدلاً من مشهد الدبابات المرابطة امام القصر الرئاسي وبنايات الاذاعة والشوارع الخالية، كان لدينا مشهد آخر: دبابة مختلفة تقف قريباً من دار الجماهير المحترقة ، وأخرى تقف عند مدخل المكتبة الوطنية امام وزارة الدفاع في بغداد، راسمال السلطة الرمزي الذي تصارع عليه الجميع بعد 58 . هل اختلف الأمر؟ أقصد هل اختلفت اللحظة في مخيلة الناس؟ بالطبع نعم، ونعم كبيرة. ثمة أخبار أخرى. طوفان مرعب من القصص الملغاة، المؤجلة مما طغت عليها قصة الديكتاتور الفريدة ورحَلتها الى زمن آخر، هو، ولا شك، زمن الصحافة المختلفة. صحافة بلا قصة واحدة. صحافة بتفاؤل كبير بلا رقابة صحافة تبدأ الآن، صحافة بلا صخب تاخذ على عاتقها حكاية قصص البلاد المهملة. والاصح أن نقول المحذوفة من المتن . وهو ما ادعته 200 صحيفة صدرت بعد رحيل الديكتاتور. ولا شك انه رقم فلكي، اكبر بكثير مما ينبغي. إنّه طوفان حكائي يوازي طوفان الحكايات المؤجلة. لم تكن الطرفة بعيدة عن الواقع عندما ادعت أنّ العراقيين سيصدرون صحفا بعددهم. لكل عراقي صحيفته وفي الصباح يتبادل العراقيون صحفهم، أقصد حكاياتهم . قصص متخيلة لا ينقصها سوى حكاء بارع يأخذ عنا مهمة الحكاية ويصدر لنا الصحيفة المعتمدة. صحيفة الدولة. صحيفة الحكومة. صحيفة الحزب. صحيفة الوزارة. صحيفة القاتل فوق صحيفة المقتول أهو الحكاء العليم ؟ ربما، حكاء آخر يحذف ما يشاء، أو ما لا يتلاءم مع حكايته. وهي ذاتها ، للاسف، حكاية البلاد بقصصها المؤجلة ، ولا أدري لماذا لا اقول قصصها الملغاة؟!