دمشق | حالة من التخبط والفوضى الواضحة، عاشتها مجمل الأوساط الثقافية في سوريا، بالتزامن مع بداية أحداث الانتفاضة الشعبية وحراكها السلمي في مجمل المدن والمحافظات السورية الذي تراجع سريعاً لصالح المعارضة المسلحة و«الجيش الحر» وكتائب الحركات الإسلامية الجهادية المتشددة.
في ذلك الوقت، سارع المثقفون إلى تصنيف أنفسهم في خنادق متناحرة. قسم كبير منهم اصطف مع الثورة والحراك السلمي الشعبي، والقسم الآخر وقف مع النظام السوري في تصديه «للمؤامرة الكونية» التي تقودها القوى «الظلامية» ضده، بينما فضلت فئة قليلة البقاء على الحياد، ومراقبة الأحداث وتطوراتها قبل اتخاذ القرار الحاسم والمصيري في الاصطفاف مع أحد أطراف الصراع. وصلت الخلافات بين المثقفين السوريين الى حدود التخوين، والاتهام بالعمالة والمتاجرة بدماء المدنيين، هذا ما أكده حجم وطبيعة ومضمون البيانات المتلاحقة التي وقّعها المثقفون المعارضون والموالون على حد سواء. لم تتعدّ هذه البيانات مسألة تسجيل مواقف سياسية على بعضهم البعض إزاء أحداث الأزمة والحرب السورية. لكن على الأرض، دخلت الحركة الثقافية بشكل تدريجي في سبات طويل، في الوقت الذي كان فيه المواطن السوري، المغلوب على أمره، يتوقع أن يلعب رواد الحركة الثقافية في بلاده دوراً أكثر فعالية ولو بالحد الأدنى. مع ارتفاع حدة العنف والدموية، وسيطرة صوت السلاح والرصاص والقذائف على مجمل المدن والمحافظات السورية، انكفأت غالبية المثقفين السوريين على أنفسهم، وتخلى معظمهم عن عادة زيارة «مقهى الروضة» الدمشقي الذي كان يعتبر برلماناً ومحطة شبه يومية لهم. وسرعان ما حزم عدد كبير من المثقفين حقائب سفرهم، وغادروا أرض الوطن الذي لطالما تغنّوا بتعلّقهم وشغفهم به، متوجهين إلى بلاد الغربة، ليبدأ فصل جديد من علاقتهم مع الحرب الدائرة في بلادهم، ربما عنوانه المشترك لهم جميعاً هو الفايسبوك!
حالة إدمان شبه جماعية، تعيشها اليوم الغالبية العظمى من المثقفين السوريين ـــ موالين كانوا أو معارضين ـــ على تصفّح وكتابة «الستاتوسات» النارية الصارخة التي ينشرونها على صفحاتهم الشخصية. تعلن هذه «الستاتوسات» عن مواقفهم وتؤكد لقارئها اقتناعاتهم السياسية والإنسانية. يكفي أن يكتب مثقف بارز «ستاتوس» شخصياً، أو تعليقاً على أحد روابط الصفحات التفاعلية في الموقع الأزرق، حتى يشعل ناراً تنتشر بسرعة جنونية على صفحات الإنترنت، وقد تستمر أياماً في إثارة الجدل، قبل أن يشعل مثقف آخر ينتمي إلى المعسكر المضاد ناراً أخرى في تعليق جديد!
اللافت في مجمل نشاط المثقفين السوريين «الفايسبوكي» هو السلبية وعدم الفعالية التي يمكن اعتبارها قاسماً مشتركاً لديهم جميعاً: الكلّ ينتظر وراء شاشات حواسبهم، حدثاً أمنياً، أو تفجيراً إرهابياً، أو اغتيال شخصية سياسية أو ناشط سلمي، ليتحول هذا الحدث إلى مادة خام، يحاول كل واحد ترجمتها وصياغة ما يناسبها من كلمات وفق اقتناعاته ووجهة نظره. تكر بعدها سبحة التعليقات والحوارات والمناوشات الإلكترونية التي تصل الى حد تبادل الشتائم في الكثير من الأحيان، مع خطاب ومفردات لا تخلو من المحتوى العنصري والطائفي. هذا حدث أخيراً في سلسلة تعليقات وحوارات دارت بين المثقفين السوريين من رواد الموقع الأزرق، حول مشهد بكاء الممثل السوري غسان مسعود في الحوار الذي أجراه مع الإعلامي زاهي وهبي في برنامجه «بيت القصيد» الذي تعرضه قناة «الميادين» أو مع ردود الفعل والتحليلات المتباينة، حول التفجير الإرهابي الذي وقع أخيراً في منطقة المزرعة وسط دمشق. خلال العامين الماضيين من عمر أحداث الحرب السورية، قضى عدد كبير من المثقفين السوريين ساعات طويلة جداً أمام شاشات حواسيبهم الشخصية، يقفزون بين صفحات الموقع الأزرق، لتوزيع «اللايكات» على التعليقات والعبارات التي تتوافق مع وجهات نظرهم، أو للدخول في حوارات وسجالات عقيمة، سرعان ما تصل إلى طريق مسدود، مع من يخالفهم الرأي والاقتناع. في إحصاء سريع لبعض أسماء الثقافة البارزة في سوريا، نجد أنّ عدد الكلمات التي كتبها صاحبها على صفحته الشخصية خلال العامين الماضيين تجاوزت بمرات كثيرة عدد كلمات مجمل نتاجه الثقافي والإبداعي وحتى الصحافي على حد سواء! مع دخول أحداث الحرب السورية عامها الثالث، يبقى السؤال الأهم: هل النشاط الفايسبوكي المحموم هو ما كان ينتظره المواطن السوري من غالبية مثقّفي بلاده؟