بعضهم لم يستفق بعد من الكابوس الذي أطبق علينا يوم السبت الماضي مع صدور الحكم بحبس أحمد ناجي. آخرون ما زالوا يبحثون عن أسباب تتمتع بالحد الأدنى من المعقولية لتفسير هذا الحكم، حتى أن الروائي والشاعر ياسر عبد اللطيف، كتب على فايسبوك: «فيه إحساس قوي إن أحمد ناجي بيتعاقب على مقالاته ضد السعودية مش علشان روايته»، في إشارة إلى مقالاته في جريدة «المصري اليوم».
الغضب، والصدمة، والرعب، تتضح جليّاً في كلمات الكتّاب والمثقفين المصريين، الذين دشّن بعضهم حملة بعنوان «الدولة مش عايزة مفكرين... احرق عملك الإبداعي»، داعين إلى وقفة احتجاجية ليحرقوا فيها كتبهم، وصورهم، ولوحاتهم، ومنحوتاتهم...
يقول الروائي حمدي أبو جليل الذي حوكم قبل سنوات بتهمة مسؤوليته عن نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، ضمن سلسلة من مطبوعات وزارة الثقافة: «وكيل النيابة الذي يجرؤ على سجن كاتب بسبب كلمة، فهذا بالتأكيد إسلامي بطبعه. نحن نعرف منذ زمن أن النيابة والشرطة مخترقتان بهذا الفكر. وقضية ناجي جعلت ذلك على الملأ. إنها فضيحة دولية». ويختتم كلماته الغاضبة: «رواية «استخدام الحياة» التي قرأها 2000 شخص بحد أقصى، أصبحت الآن عالمية. إنهم يعملون ضد أنفسهم. وهذا المنع لا يذكرني إلا بالسفر على الحمير. لقد ولّى زمن المنع». النبرة الغاضبة نفسها بدت واضحة في كلمات الروائي إبراهيم فرغلي الذي يقول: «هذا الحكم فضيحة بكل المقاييس، بعد الحكمين الخاصين بحبس إسلام البحيري، وفاطمة ناعوت. هو يعبر في الوقت عينه عن التباسات كثيرة تحيط بمؤسسات الدولة، بخاصة تلك الموكلة بتطبيق القانون. فإما أنها تعبر عن التباس فهم النظام نفسه لفكرة حرية التعبير، أو أنها تشير بجلاء فاضح إلى عدم فهم مؤسسات الدولة وبينها القضاء لمواد الدستور التي تنص على حرية التعبير كحق مكفول، فالمادة 65 من الدستور تنص على أن «حرية الفكر، والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر». الجانب الثاني أنّ تحقيق الإصلاح الديني والنهضة العلمية وتطوير مناهج التعليم التي أعلن الرئيس المصري عنها، لا يمكن أن يحقق ثماره في ظل مناخ يسوده الخوف وسجن الكتّاب والحجر على الرأي. أياً كان الرأي الأخلاقي في أي مادة منشورة في كتاب، لا يمكن أن يكون الرد بالسجن أو المنع. إرهاب الكتّاب وأصحاب الفكر والباحثين، لن يؤدي إلا إلى المزيد من الإرهاب، وهو أمر يتناقض تماماً مع دعوة الدولة نفسها إلى الحرب على الإرهاب الديني، الذي يستخدم القمع والقتل في مواجهة خصومه». مؤلف «أبناء الجبلاوي» ينهي كلمته بالتأكيد على أنّه «لا يمكن أن تتحقق نهضة أو تنمية في مناخ فاشي يقمع الفكر تحت أي مسمى، سواء كان ازدراء أو خدش حياء أو أي من تلك المسميات التي تعد حمّالة أوجه وقابلة لتفسيرات مختلفة».
الروائي المخضرم إبراهيم عبد المجيد تلقى خبر حبس ناجي بغضب عارم، وكتب عبر صفحته الفايسبوكية: «مجلس الشعب أقسم على احترام الدستور. الدستور ما فيهوش حبس في قضايا النشر. إيه رأيكم يا مصريين. والّا كله في حب مصر؟». وطالب عبد المجيد بتدخّل النقابات الفنية: «اتحاد الكتاب هذا يومك وموعدك. النقابات الفنية هذا يومكم وموعدكم. حرية التعبير يا بلد».
طالب ابراهيم عبد المجيد بتدخّل النقابات الفنية

من جانبه، يرى الروائي صبحي موسى، أن أحمد ناجي ضحية صراعات عدة: «ناجي ضحية الصراع بين الأجهزة في مصر. من المعروف أن أي نظام يقوم على السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويمكننا في اللحظات الحرجة أن نجعل الأمن سلطة رابعة وليس الصحافة والإعلام. ما يجري في مصر من قمع للحريات ليس سوى تجلٍّ لهذا بين السلطات الحاكمة، وفي مقدمتها سلطة القضاء التي تسعى إلى إبراز نفسها على أنها المدافع الأول عن القيم في المجتمع، ما يجعلنا نعود إلى زمن السادات وسنه لقانون العيب، ويجعلنا نتذكر زمن مبارك وما حدث لنصر حامد أبو زيد. في المجمل، ناجي هو ضحية ثقافة زمن مبارك بشكل واضح، بدءاً من الرهان على كسب الجماهير وتعاطفها مع القضاء بوصفه حامي القيم والأخلاق، مروراً باندفاعه هو نفسه لنشر فصل من رواية يعلم أنها صادمة للرأي العام المحافظ، بخاصة أنّه سينشر في جريدة عامة وممولة من أموال دافعي الضرائب، بما يعني أنه يحق لأي شخص أن يتساءل عن الجدوى والقيمة وغير ذلك، لكنه كان يتحرك وفقاً لمنظومة الثقافة التي سادت في زمن مبارك، وأدت إلى نشر الروايات الثلاث («قبل وبعد»، «أبناء الخطأ الرومانسي»، «أحلام محرّمة») في هيئة جماهيرية كهيئة قصور الثقافة. يومها، انتهت القضية بالمأساة نفسها، أي إقالة رئيس الهيئة ومدير النشر ورئيس تحرير السلسلة وإحالتهم على القضاء. لكن النيابة رأت مدى غضب الشارع في ذلك الوقت، فأمرت بحفظ التحقيق. لكن النيابة هنا تدفع بالأمر من أجل مزيد من غضب الشارع، فقد حكمت المحكمة سابقاً بالبراءة بناء على رأي متخصصين في الآداب كمحمد سلماوي وجابر عصفور. كان بإمكان النيابة أن تلتزم الصمت، لأن هذه ليست قضية تهريب أموال ولا سرقة مال عام، فما الذي ستستفيد منه المحكمة أو حتى المجتمع من سجن كاتب؟ ولا نعرف لم قضت المحكمة بالسجن في حين كان يمكنها تغريمه مثلاً. فكرة السجن نفسها غير مقبولة وتقدم رسالة واضحة للجميع أن حرية الرأي والابداع غير مكفولة. حرية الأحلام والتخيل والتفكير غير موجودة، فهل هذا ما أرادته المحكمة بحكمها؟ وهل يسعنا الآن سوى القول بأنها تريد مزيداً من الغضب لدى المثقفين والكتاب، وكأنها تدفع بالجميع نحو ثورة ثالثة؟».
يرى الروائي وجدي الكومي أنّ خدش الحياء مصطلح مطاط، ويضيف: «هناك قوى رجعية محددة في مصر ما زالت تتمسك بمحاكمة فصول وفقرات من الكتب الأدبية إذا عثرت فيها على ألفاظ جنسية، أو كلمات تستخدم لتبادل الشتائم في الشارع، وتتوجّه بصاحب الكتاب وناشره إلى المحكمة على اعتبار أنه صاحب اتجاه جديد يريد كسر حياء المجتمع، وخدش برقعه، ونشر الفتنة الجنسية، إلى آخره من الاتهامات المضحكة، فكيف بوسع كاتب، ينشر مؤلفه 1000 نسخة، أن يخدش حياء مجتمع، يعيش فيه حوالى 90 مليون مواطن ومواطنة، يتعرضون لما يخدش حياءهم بالفعل ليل ونهار؟». على سبيل التوضيح، يقول صاحب «خنادق العذراوات»: «يخدش حياء المجتمع برلماني شتّام من الدرجة الأولى، يعرفه الناس، ويعرفه كبار رجال الدولة، وقدم في وقت من الأوقات فقرة تلفزيونية في برنامج كان يتباهى فيها بألفاظه وسبابه وجنونه. يخدش حياء المجتمع مشاهد الزبالة المنتشرة على قارعة الطريق. يخدش حياء المجتمع برك المجاري الطافحة في الشوارع المهملة من كفر طهرمس والمنشية وغيرهما من المناطق المنكوبة التي يتم فيها البناء بالمخالف ويتقاعس رؤساء الأحياء عن التصدي لهذه المخالفات العقارية، أو إصلاح بنيتها التحتية. يخدش حياء المجتمع المغالاة في رفع الأسعار، وتحميل الناس مغبة الفشل الاقتصادي وعجز المسؤولين عن إنقاذه. يخدش حياء المجتمع البحث المستمر عمّا يكدر صفو المجتمع وسلمه العام، بينما البطالة والفقر والأسعار في ارتفاع».
إلى جانب كونه روائياً، يعمل أدهم العبودي في المحاماة، ولذلك يحمل موقفه نظرة سوداوية حزينة: «آلية التعامل مع المثقف في دولة بحجم مصر كان يلجأ لها أصحاب القضايا المطاردون من قِبل أنظمتهم، باتت على حافة الخطر، ظنّي أنّ الدولة تتّجه الآن لقمع المثقف، وتقييده، وحبس كلمته قبل أن تخرج». ويواصل صاحب «متاهة الأولياء»: «الأمر يعني ببساطة أنّنا أصبحنا مطية ينتهكها كل من هبّ ودبّ، فإذا لم ترق كتاباتي لأحدهم، سرعان ما سيبادر بتقديم شكوى ضدّي، وسرعان ما سيجد أولياء الأمر ذريعة لوضعي وراء القضبان. لم تعد هناك معايير ولا سياق يُؤطر علاقة المثقف بإبداعه أو بنظام دولته. اليوم لا يوجد غير القمع، وعلينا أن نخرس، إنّما إلى متى؟». ويختتم قائلاً: «اتحاد الكتاب يقف عاجزاً، وزارة الثقافة شلّت منذ زمن، النظام الأمني يعبث في مصائر الكلمة، عبث... عبث».