علاء اللامي*عن «دار بيت الكتاب السومري»، صدر كتابٌ يحمل عنوان «قاموس لهجات عرب الأهوار والعامية في جنوب العراق» باللغتين العربية والإنكليزية لمجموعة من الباحثين العراقيين هم حسين الحميري وفارس الخالدي وعلي الجابري وباسم السعداوي. والكتاب يقدم نفسه كقاموس تخصّصي، وأيضاً، كمشروع بحثي أكاديمي. يحمل المشروع اسم «كلية لندن الجامعة»، وهو مدعوم ومموّل من جهتين علميّتين أجنبيتين.
يضم القاموس ما يقرب من الألف كلمة توزعت على أبواب مختلفة هي: النباتات والأعشاب، الحيوانات ومتعلقاتها، الأدوات والأعمال اليدوية، الأمراض والمعالجات، الأطعمة والأشربة، الأفعال، المهن والوظائف، البيئة والطقس، الصفات، وأخيراً المكاييل والمقاييس والأوزان.
إن الجهد المبذول في هذا القاموس من حيث الشكل واضح وكبير؛ فالطباعة فاخرة والغلاف أنيق وحروف كلماته مطبوعة بالحروف البارزة والنص مضبوط بالشكل، وبشكل مبالغ فيه؛ حيث ضُبطت جميع حروف الكلمات العربية بالشكل من دون ضرورة أحياناً وبطريقة كثيفة تشتت تركيز القارئ، إضافة إلى بعض الأخطاء الإعرابية في التشكيل وإن كانت قليلة، ومن النوع الذي قد لا ينجو منه محرّر النصوص في حالات التشكيل الكثيف. وكان الأحرى والأكثر فائدة أن تُضبط جميع حروف المفردات القاموسية بالشكل فقط، فهي المعوَّل عليها التي قد يخطئ القارئ في لفظها، وليس كلمات نصوص الشرح وغيرها. والسبب أنّ هذه المفردات العربية الجنوبية تكون غالباً غير شائعة وغريبة اللفظ، ولهذا كان ضرورياً في ضبط جميع حروف المفردات المعنية بالشكل وهذا ما لم يقم به المؤلفون غالباً، بل ركزوا على تشكيل جميع حروف الكلمات التي لا تحتاج إلى تشكيل.
وسأضرب على ذلك مثالاً صغيراً هنا؛ مفردة «دوشه» التي جاءت من دون تحريك، وبالهاء المتصلة، والأصح أن تكون بالتاء المربوطة. ولكنك تقرأ شرحها بالكلمات المضبوطة بالشكل التالية (دوشه: آلْحَبْل آلَّذِي يُرْبَطُ بِالدَّلْوِ آلْخْاصِّ بِالْبِئْرِ). أي إنَّ المؤلفين ضبطوا بالشكل جميع حروف كلمات الشرح، حتى أل التعريف لكنهم تركوا المفردة الرئيسية أي موضوع الشرح من دون تشكيل وبخطأ إملائي كبير هو كتابة التاء المربوطة هاءً!
أما ترقيم المفردات القاموسية وطبعها بالحروف الغامقة فقد كان مفيداً وفي محله تماماً.
إنَّ صدور هذا القاموس الذي يعالج شبكة واسعة ومهمة من المفردات العربية باللهجة العراقية الجنوبية في مناطق الأهوار باللغتين العربية والإنكليزية يبقى غير مُفَسَّر أو مبرر من الناحية المعجمية العلمية، وخصوصاً أنه ليس قاموساً لمفردات لغة قديمة منقرضة أو غير منقرضة كاللغة الأكدية أو غيرها، ليكون مفيداً للباحثين في علوم اللغات القديمة كالتأثيل «الإتيمولوجيا» وعلم الآثار «الأركيولوجيا» وما شابههما. وربما كان من شروط الجهات الممولة لمشروع القاموس أن يصدر باللغتين المذكورتين معاً، ففي هذه الحالة تكون ترجمة القاموس وإصداره باللغتين أمر مفروض ومشروط.
وحتى الترجمة إلى الإنكليزية فيبدو أنها تعاني من بعض الهنات. فقد وقع نظري مصادفة على ترجمة مفردة (خلالات) على ص 23، وعرَّفها المؤلفون بـ «التمر الناشف» وترجموا ذلك إلى اللغة الإنكليزية كالتالي Unripe dates. وكلمة ناشف تعني في اللغة العربية الجاف واليابس (نَشِفَ الماءُ: يَبس، ونَشِفَتْه الأَرضُ نَشْفاً، والاسم النَّشَف/ الرائد). و (نَشَفَ، ونَشِفَ الثوبُ العَرَقَ: شَرِبَهُ، نَشَفَ الحَوْضُ الماءَ: شَرِبَهُ، كتَنَشَّفَهُ / لسان العرب). أما كلمة (Unripe) الإنكليزية فتعني «غير الناضج، الفج». وكان المترجمان قد استعملا هذه الكلمة بشكل صحيح في معنى «حِصرم» وهو العنب غير الناضج.
أضف إلى ذلك، وبخصوص المعنى، أن كلمة «خَلالات» جمع «خَلالة»، تعني في اللهجة العراقية الجنوبية ثمرة النخل غير الناضحة. وثمرة النخيل عموماً تَمُرُ بمراحل عدة؛ فهي أولاً حبابوك، ثم الچمري ويكون لونها أخضر، ثم الخَلال ويتغير لونها إلى الأصفر أو الأحمر أو مزيج من ألوان عدة ثم مرحلة الرطب، وأخيراً مرحلة التمر. والخَلال لا يكون ناشفاً بمعنى يابس أو جاف بل يكون فجاً وصلباً وغير ناضج لكنه مفعم بالماء. وثمة نوعان من التمور العراقية يؤخذ خَلالَها ويطبخ؛ الأول وهو (البريم) ويطبخ وينشف ويترك للاستهلاك العائلي وخاصة للأطفال ليكون بمثابة نوع من الحلوى. والنوع الثاني يؤخذ من خَلال (الچبچاب) ويطبخ ويجفف ثم يطحن ويصدر إلى خارج العراق، وغالباً إلى الهند، ويستفاد منه كمواد طبيعية لتحلية مواد غذائية أخرى. وهذا النوع من التمور التي تطبخ وهي خضراء تسمى حينئذ «الخَلال المطبوخ». وكان من المفيد أنْ يوضح المؤلفون مقصودهم للقرّاء هنا؛ فهل يقصدون الخَلال الأخضر غير الناضج - ولا يقال له في هذه الحالة «ناشف» - أم يقصدون الخَلال المطبوخ الجاف؟
خلل آخر عانى منه متن القاموس وهو كتابة التاء المربوطة في نهاية الكلمات المؤنثة غير منقوطة أي كضمير الهاء المتصل من دون أي مبرر أو سبب مقنع، وأحياناً يكتبونها مربوطة، وأحياناً ثالثة نجد في الصفحة الواحدة كلمات منتهية بتاء مربوطة وأخرى بالهاء المتصلة كما هي الحال على الصفحتين 46 و47 حيث نجد:
رخامة – رشمه – زائفة - رگه - زرة! علماً أنَّ جميع المفردات هنا مؤنثة تنتهي بتاء التأنيث المربوطة.
ومن الطريف بهذا الصدد أننا وجدنا النوعين من كتابة التاء في عبارة واحدة على ص 20 وهي (حبة خضره)، إذ وردت حبة بالتاء المربوطة وخضره بالهاء. والحقيقة أنَّ الخطأ المعيب في كتابة التاء المربوطة كهاء متصلة هو من أفظع الأغلاط الإملائية الشائعة في عصرنا وأكثرها بدائية ولا علاقة لها بالتأليف العلمي وخاصة المعجمي.
أما معنى «حبة خضرة» فقد ذكر المؤلفون أنها (نوع من الأعشاب يصنع منه الصابون). وأشكُّ في أن يكون هذا المعنى صحيحاً، فالمعروف في الموسوعات الدوائية العربية أن «الحبة الخضراء» ليست نوعاً من الأعشاب، بل هي ثمرة شجرة البطم المعمرة، واسمها العلمي (Pistacia) وتنتشر شجرتها في المشرق العربي وخاصة في سوريا وفي الجزائر وشمال العراق وليس في جنوبه وتسمى هناك «فستق الجبل» وربما كانت تجلب إلى الجنوب عَبْرَ التجارة. وتضيف الموسوعات أن الحبة الخضراء «أثبتت فعاليتها في الصحة العامة وزيادة الوزن نظراً إلى قدرتها العالية على فتح الشهية بسرعة فائقة وفاعليتها المذهلة في تسمين الجسم». وأتذكر أنها تستعمل أيضاً في جنوب العراق وربما في العراق كله كمطيِّب لنكهة بعض الأطعمة، وهذا ما لم يذكره مؤلفو القاموس، سيّما وأنهم لم ينشروا لها صورة في ملحق صور القاموس، فهل قصدوا حبة خضراء أخرى أم أنها هي نفسها ولكن استعمالها في جنوب العراق يقتصر على استعمالها كمعطر في صناعة الصابون؟
نقطة أخرى تتعلق بتأثيل الكلمات فقد دأب مؤلفو القاموس على ذكر أصل المفردة إن كانت ذات أصل رافداني قديم كأن يكون أكدي أو سومري، ولكنهم وثَّقوا ذلك بطريقة غامضة ولا يفهم منها القارئ غير المتخصص شيئاً، فقد كتبوا مثلاً على ص 81 عن كلمة زبيل: سلة، وهي كلمة ذات أصل أكدي (باقر طه، 1980، ص114) أو (CAD,Z,p.6=zabbilu). فماذا يفهم القارئ من هذا التوثيق حتى وإن كان مستعملاً في الدراسات والأطروحات الأكاديمية؟
لم يذكر المؤلفون تأثيلاً للأصول المعجمية العربية الفصحى لكلمات قاموسهم. وربما نجد تعليلاً معقولاً لهذا الأمر في أن عنوان القاموس هو «قاموس لهجات عرب الأهوار»، ما قد يعني ضمناً أنها كلمات عربية بداهة، ولا حاجة إلى تأثيلها معجمياً بما يثبت عروبتها. فإن كان هذا هو قصد المؤلفين فلا بأس في ذلك، مع أن تأثيل أصول بعض المفردات المثيرة للاشتباه يبقى أمراً مطلوباً ومفيداً للباحثين المشتغلين في ميدان اللغات واللهجات.
وردت بعض كلمات القاموس ساكنة الأول مكتوبة بهمزة وصل أو قطع مكسورة وهذا غير صحيح ومشوِّش جداً، وكان الأصح أن توضع حركة السكون على الحرف الأول بدلاً من همزة الوصل أو القطع. ومن هذا القبيل نجد/ امجافت - إمطبگ - إعذار (وهو حبل لربط الدابة) - إدنان.
وردت الكلمات الجنوبية التي تلفظ فيها الكاف بكشكشة ربيعة مكتوبة بالجيم المثلثة (چ)، وكان ينبغي التنبيه إلى أن أصل الكلمة قبل الكشكشة مختلف، ومثال ذلك في مفردة (شكوة) حيث كتبوها (شچوة) وعرفوها (جلد الماعز المدبوغ بشكل جيد يستعمل في عملية خض اللبن واستخراج الزبد). لكنهم لم يشيروا إلى أن هذه الكلمة عربية فصحى قديمة وتلفظ بالكاف المُكشكشة، ربما لأنهم يجهلون ظاهرة كشكشة ربيعة وأسد وشنشنة اليمن القريبة منها أو هي نفسها كما ناقشها كاتب هذه السطور في مقدمة معجم اللهجة العراقية... الجذور العربية الفصحى والجذور الرافدانية). والكلمة في معجم لسان العرب لابن منظور هي (شَكْوَةُ: وِعاءٌ من أدَمٍ للماءِ واللَّبَنِ، ج: شَكَوَاتٌ وشِكاءٌ)، وفي المعجم الوسيط (الشَّكْوَةُ: وعاءٌ صَغيرٌ للماء واللَّبَن يُتَّخذُ من جِلدٍ، وقد يُسْتَعْمَلُ لتبريد الماء. والجمع: شِكاءٌ، وشُكِيّ، وشُكِيٌّ). ومثلها كلمات (بچر = بكر) و(شبچة = شبكة) و (محچال = محكال) و(چلچل = كلكل) و (يچن = يكن بمعنى يستقر وهي عربية فصحى وذات أصل أكدي).
رغم ما تقدم من ملاحظات وتحفظات، يبقى هذا الكتاب/ القاموس مفيداً ومن الكتب الرائدة في بابها، وينطوي على جهد مخلص وجدير بالاحترام والتشجيع، رغم الحاجة إلى مراجعته وتدقيق معاني مفرداته، فهو سيسهم يقيناً في توثيق وحفظ ما ورد فيه من مفردات عربية عراقية أهوارية وهي كلمات نادرة انقرض بعضها وبعضها الآخر في طريقه إلى الانقراض. وحسناً فعل المؤلفون حين ألحقوا بقاموسهم ملحقاً للصور عن عددٍ من الكلمات التي وردت. ويا حبذا لو اعتنى المؤلفون والتقنيون أكثر في إخراج هذا الملحق المهم. فبعض الصور وردت غير واضحة ومرفقة بشروحات لأشياء أخرى بسبب خلل طباعي كما هي الحال مع صور ص 250 و251 و252 و253، ويا حبذا لو وسعوا هذا الملحق أكثر بإضافة عددٍ من صور الأشياء الوارد فيه مع زيادة العناية بالصور لتكون دقيقة وواضحة أكثر.

*كاتب عراقي