تأخّر النظام الأردني كثيراً في التحرّك لإسكات الصحافية الأردنيّة من أصل فلسطيني هبة أبو طه، فلم يعتقلها حتى الرابع عشر من أيّار (مايو) الماضي، رغم أنها نشرت عبر موقع إلكتروني خارج الأردن، مقالاً لها في 22 نيسان (أبريل) حيث ألقت بصفة الخيانة على العاهل الأردني بعد تصدّي جيشه (العربي) للهجوم الإيراني على الدولة العبريّة بالتعاون مع القوات الإسرائيلية وقوات الحلفاء الأميركي والبريطاني والفرنسي المرابطة على «أرض الحشد والرباط». ثم تجرّأت بعدها بأسبوع على نشر تقرير استقصائي في الموقع نفسه عرّت فيه بعض أسماء شخصيات نافذة في المنظومة شريكة السلالة الحاكمة التي تتولى تنفيذ دور الكيان الأردني كمعبر وممرّ تسهيلات لضمان ديمومة الإمدادات للدولة العبرية، ولا سيما بعد فرض الجيش اليمني حصاره البحري على الموانئ الإسرائيلية، وتحوّل خطوط النقل نحو الأراضي المحتلّة إلى ميناء دبي ومنها برّاً عبر ممالك السعودية والأردن.

لم تقل أبو طه في مقاليها ما يمكن نفيه أو تكذيبه حتى يصدر حكم بسجنها لعام مع النفاذ بناءً على شكوى «حق عام» قدّمتها هيئة الإعلام الرسميّة بدعوى مخالفة «قانون الجرائم الإلكترونية» سيّئ الذكر. وهي إن خلطت غضبها الظاهر من وقاحة النظام الأردني في الانخراط المباشر متعدّد الأشكال والقنوات للدفاع عن الكيان العبري بالوقائع، فإنّ ما رصدته من حقائق موضوعيّة ليست أسراراً، ويمكن لأي مواطن أردني يستخدم عقله أن يطّلع عليها ولو كلّفه ذلك إجراء مكالمة هاتفية هنا، أو سؤال مكتب شحن هناك. لكنّ أبو طه ارتكبت ثلاث «خطايا» بحق مملكة «لورانس العرب»، فكان محتّماً أن تنال العقاب. أولى الخطايا أنّها كتبت حقائق، كأن الصحافة ممكنة والأردن بلد طبيعيّ، فيما أصغر طفل في المملكة يفك أحرف العربيّة (أو الإنكليزية في مدارس النخبة) يدرك بأن ما يُرى في الأردن لا يُروى، وما يُسمع لا يُقال، وما يُعرف لا يُنشر، وأنّ كل عمل صحافيّ فيها ـــ مذ كانت الإمارة محض رغبة جامحة في صدر «لورانس العرب» حتى اليوم ــــ ليس إلا وهماً في وهم. وثانية الخطايا أنها كتبت في تقريع النظام، وهي الأردنيّة الفلسطينية الأصل. وهؤلاء فئة من الأردنيين اليوم، إن كانت خارج حدود الطبقة البرجوازية وحواشي النظام الدافئة، فهي حكماً في موضع التشكيك بالولاء للسلالة، حتى من دون ارتكاب ما يخلّ، بناءً على روابط الدم بين الفلسطينيين الموزّعين على المنافي. بالطبع، لا يشتري كل الأردنيين بضاعة الأصول والمنابت المتباينة هذه ويمقتها منهم كل عاقل، لكنّ عقوداً من تبنّيها سلاحاً فعالاً لضمان السيادة فوق متنازعين، جعلتها حقيقةً موضوعيةً: الأردني من أصول شرق أردنية تظلّ خطاياه ـــ مهما بلغت ـــ أحب إلى قلب النظام من أقل هفوة لأردني من أصول فلسطينية، وتلك معرفة أساسية لحفظ النّوع ووعي «مزيّف» للبقاء يتلقّاها أبناء الأردنيين من أصل فلسطيني في بيوتهم حتى قبل أن يلتحقوا بمدارس «الحكومة» وجامعات «النظام».
وثالثة الخطايا، أن يكتب أردني في ذمّ نظامه لدى موقع إيراني التمويل والهوى، بينما عمّان رائدة عواصم السلالات في حشد «السنّة العرب» لمواجهة مؤامرة «الهلال الشيعي» المزعومة كإلهاء عن الخنجر العبراني المزروع في خاصرة الأمّة، وللتغطية على دور النظام الأردني في إسقاط العراق، والمؤامرة «المستمرة» على سوريا.
فأي ثلاثية أتيت يا أبو طه! تقبع الأخيرة اليوم في سجن أبو حسين، وليس هنالك ما يضمن قانونياً أو نقابياً أو حتى أممياً أن لا تتعرض للإهانة والتعذيب. مع ذلك، فهي الوحيدة الحرّة التي كسرت أفق الصندوق المغلق على عشرة ملايين نفس بإحكام، وحققت حلمها بالكتابة «بالدم لفلسطين» كما قال غسان كنفاني. أما بقيتنا، نحن المعجبين بفساتين الملكة وأميرات السلالة، والمصفقين للانزالات الخلّبيّة فوق غزّة، والراقصين على أنغام موسيقى القوات المسلحة في عيد «الثورة- الخدعة» العربية الكبرى، فلنهنأ بحريتنا- العبودية الهادئة الذليلة على بعد كيلومترات قليلة من وقائع «الهولوكوست» الأحدث لحلفاء أبو حسين وحماة عرشه.