تعدّ إقامة حدث فنيّ في الجنوب اللبناني في ظل الاعتداءات الإسرائيليّة اليومية، فعلاً من أفعال الصمود. وتلك هي رسالة غاليري «نور بلّوق» التي افتتحت أخيراً معرضاً فنيّاً لافتاً بتوقيته ومكان إقامته. تحت عنوان «اللوحة الصغيرة»، يحتوي المعرض الرابع للغاليري التي افتُتحت في النبطية مطلع العام الحالي، على مجموعة من الأعمال الصغيرة في حجمها، والمتنوّعة في تقنيّاتها، تعود إلى تسعة فنانين تشكيليّين لبنانيّين هم: عدنان المصريّ، عباس مكّي، هدى بعلبكي، سناء حلال، حسين حسين، درويش الشمعة، يوسف نعمه، سوزان شكرون، وكاتب هذه الأسطر، إضافة إلى فنّان فلسطيني هو محمد الركوعيّ. يلعب الحجم في المعرض دوراً مهماً في التلقّي الجمالي، فاللوحات الصغيرة تمتاز بأثرها المباشر على نفسيّة المشاهد الذي لا يحتاج إلى وقت طويل لسبر معالمها بسبب خلوّها من التفاصيل الكثيرة التي يمكن أن تحملها اللوحة الكبيرة. ورغم تنوّع التقنيّات في التنفيذ، إلّا أنّ اللّوحة الصغيرة تترك راحة بصريّة للمشاهد. هي بمثابة الأيقونة التي يقتنيها المؤمن، ويعلّقها في أمكنة صغيرة الحجم، على عكس اللوحة الكبيرة التي تضطلع بدور وأمكنة ورسالة مختلفة، ناهيك بسعر اللوحة الصغيرة الذي يمكن أن يتحمّله هواة الفنّ غير الميسورين.
عمل لهدى بعلبكي في المعرض

رغم تشابه اللوحات المعروضة لناحية الحجم، إلّا أنّها متنوّعة بتقنياتها وأساليبها ومفاهيمها، فأعمال الراحل عدنان المصري، ابن بيروت، يغلب عليها التجريد الهندسي المتنوّع بمساحاته وحركته العموديّة، والفريد ببساطته ونغماته اللونيّة، المليئة شجناً وطاقة وضوءاً وتناغماً بين الدافئ والبارد. حملت تجربة المصري، كما نعلم، اتجاهاً حروفيّاً واستلهاماً للفنون الشرقيّة بلونيّتها وروحيّتها الإسلاميّة وفلسفتها.
أعمال هدى بعلبكي تحتلّها وجوه حالمة، تنبعث منها خلجات النفس بهدوء صامت. ورغم الهدوء المسيطر على الوجوه، إلا أنّ اللوحات صاخبة بمرسلاتها وألوانها الغنيّة الدافئة التي يعانقها شيء من برودة الأزرق والأخضر المزيّنة بزخرفة خجولة. وجوهها صوفيّة تقترب في ألوانها من الوحشيّة الصاخبة، لكنّها وحشيّة منقادة ومروّضة في خدمة لعبتها الدلاليّة.
يخاطبنا درويش الشمعة عبر جمهرة أشخاصه المحتشدة، تشبه لوحاته العرس والاحتفال بحدث اجتماعي أو عائلي، حيث الكبار يعانقون صغارهم؛ نساء ورجال يملؤون اللوحة من جهاتها الأربع عبر ضربات لونيّة ومساحات يغلب عليها اللّون الواحد (Monochrome) والأسلوب التكعيبي المحرّر والمنفلت من لعبة الخطّ والزوايا الحادّة.
أمّا حسين حسين، ابن منطقة صور، فقد غلبت الطبيعة والحياة الريفيّة على أعماله كدواء لأزمة الحياة التي نحياها؛ مناظر طبيعيّة ونساء محجّبات يسرن إلى أعمالهنّ تحت المظلّة، أو ينشرن الغسيل في الخارج، بأسلوب تشخيصيّ مجرّد، والأشكال متفلّتة من حدودها وسجنها. احتوى أحد الأعمال على وجه فيه معاناة يحاكي وجه سيّدنا المسيح بجلجلته.
عبّاس مكّي التعبيري بموضوعاته وألوانه الترابيّة، يلف التضاد الضوئي في لوحاته حول مخلوقاتها وتعابير وجوهها وحركاتها. يلجأ إلى تشخيصيّة حرّة لافتة ومحرّرة عبر تأليف محبّب ومنفلت. فهؤلاء الأشخاص الذين يلعبون الورق تكتّلوا عبر تأليف دائريّ لا ينفصم عراه، لتظهر اللّوحة المعلّقة على جانبهم بشكلها الهندسيّ اللامتناسق الأضلاع وهي بمثابة القفص لهم. لوحة لمدخّن يمجّ سيجارته لتظهر منها كتلة دخانيّة ثقيلة تدل على هموم زادت من قوّتها وثقلها العينان المتّسعة حدقتاها وتعابير الوجه الحادّة والصارمة والمؤلمة.
يوسف نعمة، ابن الجنوب أيضاً، وكما عوّدنا، تكمن لعبته في فنّ الديجيتال (Digital Art)، إذ يظهر قلب الجهاز الإلكتروني بدهاليزه ولونه الواحد المونوكرومي، ليقول لنا بأنّ عصرنا هو عصر الآلة التي اختفى معها الإنسان، وغابت ملامحه... هو عصر التكنولوجيا والآلة وموت الإنسان واللّون والمشاعر والأحاسيس والدفء...
تظهر المرأة في أعمال الفلسطيني محمد الركوعي، كما في أعمال باقي الفنّانين الفلسطينيّين، فتصبح رمزاً للقضيّة، تقف بأنوثتها مواجِهةً لنا بعيونها الحالمة تارةً، والشاردة طوراً، أو المحدّقة فينا أحياناً لتتواصل مع المشاهد وتدخله في روحيّة اللّوحة وعناصرها. رقبتها تذكّرنا بأعمال الفنّان الإيطالي موديلياني بطولها وحركتها، سلسلتها موحدة اللّون، ولباسها الشرقيّ بتقطيعاته الهندسيّة، يحاكي شكل المنازل التي تظهر في الخلفيّة، للدلالة على التشبّث بالأرض والانتماء إلى الوطن والهويّة الشرقيّة. نشير هنا إلى أنّ هذا الفنّان أمضى مدة طويلة من عمره في سجون الاحتلال قبل إطلاق سراحه. فنّان ناشط، أبدع أثناء مدة أسره عشرات الأعمال الفنّيّة، وهو عضو في اتحاد الفنّانين الفلسطينيّين.
لجأت سناء حلال إلى موتيف المنظر الطبيعي، كحجّة لتنتج أعمالاً فيها روح تجريديّة وأشكال مبسّطة ومتحرّرة بمساحاتها من أسر الداخل وأسر التفاصيل كما يظهر في الشجر والأرض والمنازل. ترتاح العين إلى لوحاتها التي تحاكي نغماتها اللونيّة الانطباعيّة المجرّدة.
يغلب على أعمال سوزان شكرون الطابع الطفولي، عبر أشخاصها وتفاصيل الأوجه المجسدة ببراءة وعفويّة وبالألوان الثريّة. تتحوّل اللّوحة إلى سمفونيّة تحاكي الروح والعين والقلب، فتدغدغ مشاعرنا وأحاسيسنا، ونستسلم لمرسلتها الجماليّة المطعّمة بدلالاتها المرافقة لها. استعملت الفنانة تقنيّة الأكريليك مطعّمة ببعض الكولّاج، فجاءت مريحة للعين عبر تناغمها التعبيريّ والغنائيّ. هكذا تجتمع لوحات الفنّانين الصغيرة الحجم، في غاليري «نور بلّوق»، لتزرع الأمل في مدينة النبطيّة التي لا تكفّ عن سماع أصوات الحرب والقتل.

* معرض «اللوحة الصغيرة»: حتّى 30 حزيران (يونيو) - غاليري «نور بلّوق» (النبطيّة، كفرجوز ـ جنوب لبنان). للاستعلام: 71/504994