لم أنسَ المنديل هذا الصباح. وضعتُه على رأسي، وقدمتُ لتوديعك. أعرف أنك يئست من تأنيبي كلما وجدتني أطرق باب بيتك سافرة، من دون حجاب. «ألا تعرفين أنك آتية لزيارة رجل دين؟» قلتَ لي معاتباً أوّل مرة. فأجبتك متفاجئة من ردّ فعلك: «وهل أنت مثل كلّ رجال الدين؟».
كاد نقاشنا يطول وأنا أحاول تدارك الأمر وأطلب حجاباً من أم حسن، زوجتك، لولا أنها أنقذت الموقف بالقول: «دعها على راحتها».

اليوم، دخلت البيت مع منديل أسود على الرأس. لم أكن على راحتي، ولا أم حسن كانت كذلك، ولا أحد من أفراد عائلتك الجميلة. الكلّ يبكي، أو يؤجل دموعه ليشجّع البقية على التماسك. خلال الشهر الفائت، كانت اللحظات التي يختلي فيها كلّ منهم إلى نفسه، مساحته للبكاء واستعادة الذكريات والمواقف التي عاشوها معك، والندم على ما فاتهم من جلساتك. يدخلون إلى غرفتك في المستشفى التي تحوّل ممرّها على مدى الأسبوعين الفائتين إلى صالة استقبال لمحبيك، من فريقي 8 و14 آذار على السواء، يبثونك مشاعرهم ويمنّون أنفسهم بمواعيد آتية لهم معك لتعويض ما فات.
كلّ خلاف معه كانت
تصلحه عبارة جميلة
أو مطلع قصيدة


أنا منهم. لي معك موعد لم يأتِ، ولك في ذمتي كتاب لم أُعِده لك رغم تأكيدك لي وأنت تعيرني إياه «أعيديه». ضحكنا يومها، ريّا وأنا. ريّا التي كنت تتهمها، كلما أضعتَ كتاباً بأنها «سرقته»، أو تتصل بها لتسألها عنه. بقينا نؤجل موعد السهرة، أنا لا أجد وقتاً وأنت تسافر وتعود، حتى لحقتُ بك إلى المستشفى، وطالبتك وأنت غارق في النوم بأن تعود لتقرأ لنا الشعر مجدداً على شرفة المطبخ. لا أعرف لم طلبت منك ذلك، رغم أن الأطباء أعلنوا حكمهم بالقول: «الوضع صعب». صدّقت الامل الذي تمسّكت به بادية حتى اللحظات الأخيرة. الكّل أحبّ أن يصدّقها وهي تقول يوم الأحد الماضي إن «الأخبار حلوة». لكن فتح باب غرفتك أمام من يرغب، لمحادثتك كما قالوا، أو لإلقاء النظرة الأخيرة عليك كما هي الحقيقة، كانت مؤشراً سلبياً لمن اعتاد طقوس الموت.
خرجتُ من المستشفى وأنا أستعيد لقاءاتي القليلة معك، لأكتشف كم كانت عميقة وكثيفة. تذكرت أني في الزيارات اللاحقة لزيارتي الاولى إلى بيتك، صرتُ أحرص على وضع المنديل على رأسي. لكني أغضّ النظر عن إعادته إلى مكانه إذا وقع. لم تعد تحتجّ، ولم أعد أشعر بالذنب لأني لا أساير موقعك الديني اجتماعياً. كنت أشعر بأن عليّ تحميلك مسؤولية ما نتحدّث به، ومنه ما نُشر في مقابلتي الصحافية اليتيمة معك، التي أعتزّ بها. يومها حاولت أن أحصل منك على «فتوى» بعدم وجوب الحجاب على النساء. قلتَ كلاماً متقدّماً عن الفرق بين الستر الشرعي والحجاب بمعنى القطيعة التامة عن الرجل. لكنك عوض تقديم الإجابة الشافية (لي)، اكتفيتَ بطرح الأسئلة، منطلقاً من تعريفك للثقافة بأنها سؤال وبأنك «مستودع أسئلة لا مستودع علم»، كما قلت لاحقاً في حوارك الطويل (الذي كنت مسروراً به وقرأت لنا مقاطع منه) مع الزميلة ثناء عطوي. يومها، لم أخرج راضية، وشعرت بأنك لا تذهب بعيداً في «انفتاحك»، بعيداً إلى المكان الذي كنتُ أرغب أنا فيه. هذا كان انطباعي منذ لقائنا الأول قبل أكثر من عشر سنوات. كنت أسمع أنك عقدت قران أكثر من ثنائي من طوائف مختلفة، فسألتك يومها عن إمكانية زواج المسلمة من مسيحي من دون أن يتخلى أيّ منهما عن دينه. قلتَ لي: «لا حلّ شرعياً أمامك إلا بأن تجعليه ينطق بالشهادتين». لا جديد في الإجابة، فهذا ما يقوله معظم علماء الدين، لولا أنك قدّمتها ضاحكاً ما فهمتُه منك تشجيعاً على القيام بالأمر ولو تطلّب الأمر «حيلة شرعية».
وفي كلّ لقاء، كنت تستمع مني إلى سؤال مشاكس في الدين يشجعني عليه ما كنت أعرفه عن سلوكك وصداقاتك ونشاطاتك، إلى أن تحدّثنا مطوّلاً ذات سهرة في بيتك. كانت ابنتاك وصديقتاي، ريّا وبادية، قد دعتاني إلى العشاء.
الثقافة سؤال
وأنا مستودع أسئلة
لا مستودع علم

قالت لي ريّا إن بادية «أنقذتني» من طبق كنت ستعدّه بنفسك للعشاء، الذي جلسنا بعده نستمع إليك تقراً نصاً أدبياً كتبتَه باللغة العامية عن صديقك قزحيا ساسين وكنت ستلقيه في معرض الكتاب في انطلياس.
ذهب بنا الشعر والأدب إلى أحاديث مختلفة، نسيت معها أني في حضرة رجل دين، كان قد استبدل عمامته بالطاقية. تحوّل اللقاء إلى جلسة نقاش في الفنون والآداب واللغة. تحدّثت عن فيروز ومحمد عبد الوهاب، واكتشافك المتأخر لفايزة أحمد، ما جعلني أستفزّك بالسؤال: «لِمَ تستمع وحدك إلى فايزة أحمد، ولا تخرج وتقول للناس الذين يعتقدون أن الأغاني حرام رأيك في الموضوع؟ لماذا تعلن اختلافك مع «جماعتك» في السياسة ولا تعلن ذلك في الدين؟ نحن في حاجة إلى دورك الديني والاجتماعي أكثر منه السياسي». انفعلتَ يومها وخضنا في غمار حديث آخر عن الدراسة الدينية والحوزة والمرجعية لدى الطائفة الشيعية، ليس هذا مقام الكتابة عنه. لكنك ختمت الكلام بالقول بمسؤولية: «من يسألني أخبره رأيي بصراحة، أما أن أفتي للناس، فهذا يحتاج مني إلى أن أعود إلى الحوزة والدراسة الدينية».
بخلاف كثيرين، لم يكن الاختلاف معك في السياسة أمراً مزعجاً لك. يكفيك أن تعرف أن محدّثك يحبّك حتى تخوض معه النقاش الذي يريد. حتى مع بقاء الاختلاف واحتدامه، كان يمكن لقصيدة أن تصلح الأمر كما حصل مرة انتقلنا فيها من الحديث عن حزب الله إلى قصائد صديقك الشاعر الراحل مصطفى جمال الدين، واندماجك في إلقاء «طرّزيها بسحر عينيك يا ليلى».
هي اللغة التي كانت تعيدني «صديقتك»، كما صرتَ تناديني أخيراً. تتصل بي وتدعوني، وتطلب مني دعوة والدي الذي تحبّه، إلى ندواتك الثقافية. وعندما تقدّمني إلى الناس، تخبرهم عن أبي «الرجل الصادق»، الذي انتقد أحد كتبك بقسوة «وكان محقاً، وقد تراجعت لاحقاً عن هذا الكتاب» تقول لي. فأفرح بك وبأبي الذي أشاطره الإعجاب بلغتك الجميلة. لغة لم تجعل منك شاعراً، كما كان الكثيرون ينادونك. كما لم تجعل منك عمامتك روائياً، رغم موهبتك في السرد والسبب «أن قوام الرواية هو في عراكها المعرفي والشعوري مع المحرّم واختبار المسلّمات في مجريات الحياة وأنا رجل دين لا يناسبني ذلك».
الآن، وأنا أكتب عنك، لا أخفي حبي لك ولا حزني عليك. أشعر بأنك ترحل مبكراً جداً وتحرمني أحاديث كثيرة كنت أودّ خوضها معك. هي ذاتها مشاعر أولادك وأحفادك. كان عليّ الهرب من عيونهم الباكية اليوم، إلى الورقة البيضاء لأكتب لهم عنك. لأذكرهم بلعبتك مع رفاقك في القرية، وهي تخمين من ترون صورته في القمر. في صغرك، كنتم تتفقون على أنها صورة جدّك الذي مات شاباً. اليوم، أقول لأولادك ولأحفادك أن ينظروا إلى القمر، وألا يخمّنوا كثيراً، ليروا صورتك فيه.