بالتزامن مع تصاعد هجوم القوات المسلّحة اليمنية (بصوت العميد يحيى سريع) على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، عاد القراصنة الصوماليون الى واجهة الأحداث بعدما تراجع نشاطهم نسبياً في السنوات الأخيرة، إذ لم تُسجّل أي عملية اختطاف للسفن التجارية منذ عام 2017 حتى قرصنة سفينة الشحن البلغارية «أم في روين» في كانون الاول (ديسمبر) الماضي. وقال مسؤولون هنود إن البحرية الهندية سجّلت ما لا يقل عن 17 حادث إختطاف أو محاولة إختطاف لسفن تجارية منذ تلك الحادثة. هذه التطورات المُتسارعة أعادت إلى الذاكرة قصصاً عديدة عن القراصنة الذي اختطفوا السفن في الماضي بهدف سرقة البضائع الثمينة على متنها، أو حتى لتحقيق مطالب عسكرية وسياسية.في الحقيقة إنّ ظاهرة القرصنة البحرية قديمة جداً وقد بدأت في اليونان، ثم ازدهرت مع الفايكنغ في القرن الثامن، والفرنسيين في القرن الثالث عشر، والإسبان في جزر البهاماس بعد اكتشافها من قبل كولومبوس، ثم تطوّرت القرصنة على السواحل الأفريقية وفي مدغشقر. انتشرت ظاهرة القراصنة أيضاً في منطقة الكاريبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتحوّل بعض القراصنة إلى شخصيات أسطورية مثل «اللحية السوداء» الذي بثَّ الرعب على السواحل الأميركية والأوروبية، والقرصان الانكليزي «كاليكو جاك»، مُصمّم شعار القرصنة «الجمجمة والسيفين»، الذي نشط في جزر البهاماس خلال أوائل القرن الثامن عشر. نذكر أيضاً القرصانة الصينية تشينغ شيه التي عاشت ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وعُرِفت بلقب ملكة القراصنة، إذ فرضت سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى ملك البحار الجزائري خير الدين بربروس الذي مارس القرصنة على سواحل المتوسط في القرن السادس عشر بمعيّة أخيه عروج بتوجيهات من كوركود نجل السلطان العثماني بايزيد الثاني، بهدف التصدّي للتوسُّع الإسباني. وكان هؤلاء القراصنة ينجحون دائماً في تسييل البضائع المنهوبة من خلال بيعها لبعض الحكام الفاسدين الذين كانوا يشترون غالباً المسروقات مقابل الحصول على مواد أوّلية بأسعار مُخفّضة.
قد نظنُّ للوهلة الاولى أنّ القراصنة القدماء كانوا متعطشين للمال والمجوهرات ولكن هذا الأمر ليس دقيقاً دائماً. يشير الكاتب الفرنسي جيل لابوج إلى أن القراصنة لديهم علاقة خاصة بالمال، فهم لا ينهبون السفن لجمع الثروة فقط، بل للتمرُّد على النظام القائم وتحقيق أحلامهم في الحريّة. على عكس المجتمع التقليدي حيث ترتبط الثروة بالسلطة والتسلسل الهرمي الاجتماعي، ينتخب القراصنة قبطانهم ويتقاسمون الغنائم بشكل ديمقراطي وعادل. ويؤكد لابوج أن المال ليس غاية في حد ذاته بالنسبة للقراصنة، بل هو وسيلة لضمان بقاء المجتمع، فجزء من الغنيمة مُخصّص لصيانة السفينة وعلاج جروح البحّارة وتمويل الصندوق المشترك للنفقات الضرورية. يُظهر هذا النهج أنّ القراصنة كانوا يتمتعون بنظام اقتصادي عادل، وأنّ رؤيتهم للثروة ترتبط بمُثُل الحريّة والمساواة والتضامن.
لكن يجب أن ندرك أنّ أسطورة القرصان تشكّلت في ذهن العامّة بفضل الأدب والسينما، حيث تحوّل هؤلاء الخارجون على القانون إلى أبطال جذابين على الشاشة الكبيرة. ساهمت الروايات والأفلام في خلق صور نمطيّة عن القرصان من خلال أزيائه المُميّزة كالسترات الجلدية والقمصان ذات الأكمام الواسعة والسراويل القصيرة والأحذية ذات الكعب العالي، بالإضافة لوجود بعض العلامات على جسده مثل الندوب والوشوم والساق الإصطناعية، وامتلاكه لببغاء أسود. كما يتزيّن القرصان دائماً بالأكسسوارات الغريبة مثل القبعات الكبيرة والريش لتعزيز طابعه الغامض والجريء، ويخوض غمار البحر بسفينته المخيفة التي ترفع راية سوداء تحمل جمجمة وعظمتين متقاطعتين. تُعتبر رواية «جزيرة الكنز» لروبرت لويس ستيفنسون من أشهر الروايات عن القراصنة حيث قدّم فيها شخصية «لونج جون سيلفر» القرصان القاسي والمُحبّب في ذات الوقت والذي أصبح رمزاً للقراصنة وأفكارهم الدنيئة المبتذلة. وقد نجح ستيفنسون في خلق بيئة مميزة لحكايات القراصنة من خلال وصفه الرائع للبحر الفيروزي والجزر الصحراوية وخريطة الكنز المدفون.. وأخيراً لا يمكن أن ننسى القبطان الشهير جاك سبارو في سلسلة افلام قراصنة الكاريبي الذي جسّده الممثل جوني ديب بأسلوب أضفى على صورة القرصان الكثير من الجاذبية والسحر، وجعل الجميع يتعاطف مع قصته. مردّ هذا التعاطف يعود إلى أنّ شخصية القرصان جاك سبارو تُمثّل من ناحية علم النفس «الهو» الذي يعبِّر عن الرغبات الغريزية والتمرّد على السلطات، مما جعلها تحظى بتأييد المشاهدين، خاصة في ظل الأوضاع الإجتماعية والسياسية غير العادلة التي يعيشها معظمهم.
في عصرنا الحالي يلجأ العديد من القراصنة لاختطاف السفن التجارية وطواقمها بهدف طلب فدية مالية ضخمة أو للتأثير على اقتصاد الدول المستهدفة كما يفعل القراصنة الصوماليون حالياً في مضيق باب المندب مستخدمين الزوراق السريعة للسيطرة على السفن المارّة قرب سواحل الصومال. لكن يمكن أن يتم الاستيلاء على السفن لأهداف سياسية. في هذا السياق، نذكر اختطاف الباخرة الإيطالية أكيلي لاورو في 7 أكتوبر 1985، من قبل أربعة أعضاء من جبهة التحرير الفلسطينية أثناء انتقالها من أمام سواحل بورسعيد إلى ميناء أسدود الإسرائيلي. كان محمد عباس (أبو العباس) مؤسس جبهة التحرير الفلسطينية وراء التخطيط للعملية التي قُتِل خلالها رجل أميركي يهودي عجوز. وقد طالب الخاطفون بإطلاق 50 معتقلاً فلسطينياً من السجون الإسرائيلية لكن هذا المطلب لم يتحقق، واستسلمت المجموعة للسلطات المصرية التي قررت إرسالهم إلى تونس وتسليمهم لمنظمة التحرير. لم يرق الأمر للولايات المتحدة التي اعترضت الطائرة التي تقلُّ أبو العباس وأجبرتها على الهبوط في جزيرة صقلية الإيطالية بهدف إعتقال المجموعة، لكن السلطات الإيطالية رفضت التدُّخل الأميركي وأصرّت على محاكمة الخاطفين في إيطاليا. كان لهذا الحادث تأثير كبير على القضيّة الفلسطينية‏، ودفعت قيادة المنظمة بزعامة ياسر عرفات لنبذ العمليات الفدائية لضمان اعتراف الولايات المتحدة بها كمُمثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، تمهيداً لاجراء تسوية سياسية.
في ختام هذه الرحلة المثير ، نجد أن ظاهرة القرصنة البحرية لا تزال تلعب دوراً معقّداً ومحورياً في المشهد العالمي المعاصر. إنّ استحضارنا لأساطير القراصنة وقصصهم يُسلّط الضوء على التناقضات المحيطة بصورتهم التي تتأرجح بين الرومانسية الحالمة وبين الواقع المرير، خاصة في ظل الوضع الصعب الذي يعيشه العالم اليوم بسبب تصاعد التوتّرات الجيوسياسية. أما اليوم، وفي هدوء وهيجان أمواج البحر الأحمر والمحيط الهندي، علينا أن نترقب مآل حرب السفن الدائرة هناك، خصوصاً أنّ اليمن ينفر اليوم ليقوم بدور معاكس، مُهدداً قراصنة الأرض - فلسطين- بطيهم عن صفحة الماء!