أخذ محور المقاومة حيزاً واسعاً في معرض سهى صباغ «على طريق القدس» الذي اختتم قبل أسابيع في «ملتقى السفير» (نزلة السارولا – الحمرا). تتميز التشكيلية اللبنانية بخط فني دون أقرانها من الفنانات والفنانين التشكيليين في لبنان، فهي تتخذ من الفن الواقعي التعبيري مدرسة واتجاهاً لأغلب أعمالها التي شكلت أيقونة دلالية مليئة بالمعاني، بل ومثلت حقلاً صورياً من عدة مستويات لونية أعطت لنفسها ذلك التبرير الذي يجعلها تقدم نسقها الجمالي عبر توظيف الواقع وارتباطه الوثيق مع روحية المنطقة التي تعيش مخاضاً كبيراً، تلك الروحية التي تؤدي أكثر من وظيفة وغرض فكري ليس لأنها تستجيب لأنماط الخبرة الفنية في مثل هكذا ممارسات بل لأنها تهدف إلى تكوين تراكيب تشرع بتأسيس الجمالي من أكثر من جهة، بل حتى إننا يمكن اعتبار هذا المعرض نصاً شعرياً (الفنانة صباغ شاعرة أيضاً) تحكمه نسقية لغوية ومعبراً إبداعياً تكونه عناصر قابلة للوصف، من هنا يمكن القول إن أي قراءة تحليلية لهذا المعرض تعني محاولة لإقامة علاقة مع العمل الفني نفسه من خلال استخلاص الأنساق التعبيرية التي تنظم هذا المعرض الذي آرى رسوماته متشابكة في المضمون في سلسلة مترابطة بالشكل والفكرة والمضمون حتى وكأن المتفرج يشاهد لوحة واحدة أمامه ولكن متنوعة بشخوصها بصريًا.في هذا المعرض تتابع الفنانة صباغ تجربتها التشكيلية وانفعاليتها وتفاعلها مع ما يحصل في المنطقة من عدوان صهيوني/ غربي وهو ما يحتاج لقراءة تفكيكية لدلالاته ومنها محاولة رؤية الافكار والبحث عنها ومراجعتها. هي عملية رصد من خلال مخيلة ابداعية والغوص في اعماقها والبوح عن المسكوت عنه من خلال هذه الدلالات الكثيرة والمثيرة في المعرض حيث تحتدم أجواءها وألوانها وكأنها أمواج متلاطمة في بحر هائج.
فحالما إمتلكت صباغ ناصية أبجديات اللغة الفنية الحديثة، بادرت الى إغراق نفسها في لجج بحر الألوان الصادمة، وإبتكار ألوان جديدة كلياً حتى على استخدامات بعض فناني المدرسة التعبيرية التي يمكن لها أن تحتضن مضامين عديدة.
تجربتها التي تتميز بالأسلوب التعبيري القريب من الوحشي لما تحتويه من شخوص بشكل صريح اعتمدت فيه ألواناً طاغية كالاحمر والازرق والاصفر في مزيج لوني مغاير، خصوصاً أنّ لكل لون مدلولاته وكأننا أمام حركة تناغم موسيقي، وحيث تتفاعل أجزاء الرسومات مع معانٍ جد عميقة ومباشرة.
وإذا أراد المتلقي أن يفكك البناء الدلالي للنص التشكيلي لاستجلاء المعاني الانفعالية للفنانة الخفية فيه، فإنّه سيواجه اشكالية القراءة المكتملة لهذا المعرض، إذ غالباً ما تكون القراءة مجتزأة وغير ملمة الماماً كاملاً بمجمل العمل الفني، فهناك من يقرأ رسومات المعرض بغية استنباط معنى ما تتضمنه هذه الشخوص/ الرموز، وآخر يبحث عن التكوينات اللونية وتوازناتها، هل تقرأ بعين العقل المتأمل المحللة لمفرداتها، أم بعين الحس؟ هل تقرأ الرسومات بوعي انفعالات الفنانة التي ابدعتهم أم من منظور لا وعيها. ولذا كمتلقي عليه اطلاق العنان لقراءة المعرض انطلاقاً من حس بصري مستند إلى تأمل ادراكي لبنياته التشكيلية بخواصها وايقاعاتها التكوينية واللونية، القابلة للخضوع لمعايير جمالية.
وهكذا نجد أن الفنانة تمكنت باحترافية معقولة من التعبير عن اضطراب الواقع اللبناني أيضاً (تفجير المرفأ والحراك الشعبي...)، وبدلالة أيحائية يمكن رؤيتها من خلال سعي صباغ بجد ودأب كي تضفي شروقاً متميزاً على سطوح رسوماتها التي تتصارع فيها الكثير من الثيم والايقاعات اللونية المتناقضة أحياناً والمتآلفة احياناً أخرى، من خلال التعامل العفوي الواقعي. إذ تعتمد التجريب للتكوين اللوني القريب من تشخيص الواقع. وتلك هي مغامرة البحث عن تعبيرية قيّمة عبر تأثير صدى اللون في عين المتلقي.
فحالما إمتلكت صباغ ناصية أبجديات اللغة الفنية الحديثة، بادرت الى إغراق نفسها في لجج بحر الألوان الصادمة، وإبتكار ألوان جديدة كلياً.
حاولت الفنانة أن تبدع قراءة معمقة للوصول إلى إشارات سردية لا متناهية كي نجد تحولاً من طريقة إظهار بريقها اللوني، إلى تقنية استخدام الأجواء التي توحي بالعطاء اللوني، واللون هنا ليس مسألة أنثربولوجية، وإنما هو مسألة سيكولوجية وثقافية أيضاً يتحول أحياناً إلى صيغة تشكيلية واقعية تعبيرية غير متطرفة في عفويتها وحداثتها، لتصبح سطوح الرسومات مجالاً للتشكيل الحر ومتنفس لروح القصيدة، بحيث تخضع معطيات الأعمال البصرية لحركة الألوان التلقائية بعفوية اللحظة الإبداعية، والعفوية هي من أصعب الأمور في الفن وليس العكس كما ممكن أن يفهم البعض، فكل لمسة لونية هنا هي كشف وايحاء تعكس ما بداخلها من أفكار وأحاسيس ومشاعر تعبر عن حالاتها.
إن المساحات الصغيرة التي تتجسد في هذه الرسومات التي شكلت ملصقاً سياسياً وفي ألوانها، تحاول صباغ أن تخدعنا لتتيه في جمالياتها وتنسى ما اختبأ ورائها من معان ورسائل فكرية واقعية وأسى حاضر وترقب وحيرة من غد قادم. فالفن التشكيلي هو ذلك الفضاء المفتوح على أفق الواقع بكل إشكالاته.
الواضح أيضاً أنّ صباغ تجيد الخروج من أبواب اللون إلى بوابات الضوء ومدارات المساحات وانتصار الذاكرة في تكوين أخيلتها المترابطة التي تتجادل مع الأزمنة في محاولة للملمة اللحظات الهاربة الأكثر اشراقاً بهدف خلق المتعة للمتلقي، حيث تتداخل الذاكرة على شكل استرجاعات حلمية مشحونه بطاقات لونية متفجرة تختصر المسافة بين الحلم والواقع، في عوالم مستعارة تعيد للمشاهد نوعاً من البهجة المدهشة في محاولة لاصلاح روحي تسعى له.. إنها تستفز ذاكرة المتلقي بعفويتها وتصيبه بالذهول في موضوعاتها الراهنة.
انتهجت الفنانة صباغ، أسلوباً فنياً تعبيرياً خاصاً بها، فهي تعتمد بساطة التعبير والتكوين. فمن خيارات الفنانة الموضوعية أنها تبحث عن واقع قابل لإعادة صياغته وتشكيله من جديد شكلياً ولونياً لتحقيق قيم جمالية معينة باتساق ينسجم وثيمة اعمالها وبواعثها الفكرية والجمالية.
لا تتوقف صباغ عن تدفق الرمزيات المرتبطة بالواقع اللبناني في تفاصيله الإنسانية، إذ تتعايش في لوحات صباغ القدرة على المزج ما بين التشخيص الواقعي والتعبيري، وهي تمتلك سمات القصد منها توفير أكبر مساحة من التأسيس لما هو فكري وجمالي تظهره الرسومات وتعززه مظاهر بنية الشكل الفني مندفعة بأقصى حالاتها لتعزيز رؤيتها الجمالية أمام المتلقي.
في كافة أعمالها، تطرح صباغ تساؤلاتها واستفهاماتها النابعة من تصوراتها الشفافة للوجود وتنقل بدقة مدى تفاعلها مع واقعها ولكنها تلجأ إلى خيالها المعرفي وزخم علاماتها لتقدّمها بفكر نقي طيّع أمام انحرافات الواقع الإنساني وتناقضاته فهي لا تفرق عن شخوص الواقع التي تُصارع في محيطها فهي أيضاً تصارع القوالب الخانقة وتنحدر من منعطفاتها الجارفة بعمق أحاسيسها النقية.
هكذا انبثقت لوحاتها من رحم الألم والوجع والثورة والمقاومة، الأمر الذي جعل تجربتها التصويرية تَتَّسِمُ بالحضور الرمزي للنماذج المرسومة، في أبعادها التعبيرية الإيحائية. ولكن ما الذي تخفيه وتظهره لوحاتها الفنية في آن؟ هي، بدون شك، ردّ فعل سيكولوجي وترجمة ذاتية مليئة بمجموعة من التفاعلات النفسية. إذ لا يمكن الفصل بين التعبير الداخلي للفنانة والتعبير الخارجي.