انطلق «مهرجان البستان» السنوي الشهر الماضي، وجرت كل أمسياته كما كان مقرراً لها (باستثناء إلغاء واحدة لأسباب صحية) رغم الأجواء البركانية التي أبقت القلق ثابتاً في أوساط المنظّمين. أمسيات جيّدة وأخرى تاريخية. نجوم مكرّسون ونجوم صاعدون. أعمال جميلة وجواهر أجمل. لحظات أمل وفرح، رغم الألم في رفح. حتى الجمهور كان أكثر تنوّعاً هذه السنة، كأنّ من كان يستصعب صرف المال على حفلة موسيقية في أوضاع طبيعية، قرّر أن ليس هناك ما له قيمة في هذه الحياة إلّا «هالشويّة موسيقى». نبدأ بلمحة على آخر مشاهداتنا، ونختم بكلمة عن ختام المهرجان غداً الأحد. بعد مرور آل بيريزوفسكي الميمون، أحيا ثلاثي عازف البيانو جوليان جوزيف موعد جاز، مقدّماً مقطوعات خاصّة وكلاسيكيات.
يؤدّي فيكتور جوليان ــ لافريير كونشرتو التشيلّو لدفورجاك

الأمسية كانت جيّدة، رغم إمكانات عازف الدرامز المتواضعة، وتبقى الذروة فيها، لِمَن أمعَن السمع، في أداء جوزيف لـ I Fall In Love Too Easily التي وضع قلبه في ارتجالاته عليها، ليوقّع ربّما أجمل نسخة سمعناها من هذا العمل الشهير. بعد الجاز، أتت ذروة الدورة: الثنائي اليافع ألكسندر كانتوروف (بيانو ـــ 26 عاماً) ودانيال لوزاكوفيتش (كمان ــــ 22 عاماً) يهديان الجمهور بأناقة فائقة وإتقان عالٍ باقة من الأعمال، في أداءٍ كاد ينسينا التسجيلات المرجعية، إذ عادلها غالباً وتخطّاها أحياناً. فكانتوروف الذي يملك دقةً وملمساً «ميكيلنجيلياً» (نسبةً إلى الأسطورة أرتورو بينيدتّي ميكيلنجلي) وخبرةً شبه حصرية بالعصر الرومنطيقي، قدّم أداءً تعجيزياً من الناحيتَيْن التقنية والتعبيرية، وازناً نسبة حضور آلته إلى الكمان بميزان الذهب. أما لوزاكوفيتش الذي فوجئنا بأنّه اصطحب معه الـ «ستراديفاريوس» (نسبةً إلى صانع الآلات الوترية ستراديفاري) كما أكّد لنا خلال الاستراحة، فقد ساعدته الآلة على «قول» ما يريد كما يريد، بالأخص من الناحية الديناميكية، حيث سمعنا ما استجلب الدمع في الأصوات الشديدة الهدوء، وما هزّ القاعة في تلك الشديدة القوّة. هنا تلمُس بالأذن المجرّدة أنّ ملايين الدولارات التي يبلغها ثمن هذه الآلة مبرّرة كلّياً، وأنّ المواهب الكبيرة لا تُقدَّر بثمن.
بعد كانتوروف/ لوزاكوفيتش، أمسية رمضانية شرقية وأخرى لمغنية الأوبرا جولي فوكس لم نحضرهما. الأخيرة تشارك أيضاً في الأمسية ما قبل الأخيرة (أي أمس الجمعة، ولكن بعد كتابة هذه السطور) في الليلة المخصصة لـ «القدّاس الصغير»، العمل الديني الذي وضعه روسّيني بعد نحو ثلاثة عقود من «الصوم» عن التأليف.
غداً، يُختتم «البستان» بأمسية ستكون أقرب إلى الاحتفال بمرور الدورة على خير. على البرنامج السمفونية رقم 40 (ما غيرها!) لموزار، بالإضافة إلى كونشرتو التشيلّو لدفورجاك، يؤدّيه فيكتور جوليان ــ لافريير. الحبيبة فيروز والراحلة صباح ستغمر ملائكتهما الأمسية. من جهة، شكّلت الحركة الأولى من موزار أساس أغنية «يا أنا يا أنا» التي اكتشف البعض البارود بالتصريح أنّ لحنها مبنيّ (مستخدماً ـــ ومعمِّماً! ــــ عبارةً أوقح وأغبى من «مبنيّ») على موزار. علماً أنّ هناك إشارة إلى ذلك أينما وردت الأغنية (على أغلفة الأسطوانة الأصلية)، ناهيك بأنّ بناء عمل على عملٍ سابق، هو أمرٌ يُمارس منذ ما قبل باخ وفي كل الأنماط، وله قواعده وأصوله وقوانينه. أما من جهة أخرى، فالحركة الأخيرة من دفورجاك، التي بالتأكيد لم يصل إليها «مكتشفو البارود»، فاستعين بها ربما مع بعض التصرّف (وهذا لا يذكره الملحّن) في أغنية شهيرة لـ «الصبّوحة»… ما هي؟ الدنيا رمضان وهذه مساهَمة في فوازيره!