مرّ عشرون عاماً على وفاة أحد أعظم الموسيقيين اللبنانيين زكي ناصيف (4/7/1916 ـــــ 10/3/2004). نتذكره في الثراء الذي امتازت به شخصيته الموسيقيّة والحضاريّة وحتى العلميّة.كان زكي ناصيف عالماً، ضليعاً في الأصول الأنثروبولوجيّة للفنون الشعبية في بلاد الشام، وهي الفنون المنتشرة في أرياف لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، وبعض الأنحاء العراقيّة. وهو الجار الذي كنّا نزوره في منزله في محلّة الطيّونة، ونسأله في المسائل الفنية، حين كنا في سنّ الفتوّة، مع أخوَيّ إلياس وسليم، فيفيدنا بعلمه الصادق الأصيل العميق.

كان ضليعاً في الأصول الأنثروبولوجيّة للفنون الشعبية في بلاد الشام

من معين علمه هذا، توجّهنا إلى عدد من الدراسات العلميّة، في الشأن الثقافي والفني الشامي العام، مثل دراستي «الفنون والتقاليد الشعبية والحرف اليدويّة في فلسطين قبل 1948» التي كتبتها للموسوعة الفلسطينيّة (دمشق ــــ 1990)، أو دراسة أخويّ إلياس وسليم سحّاب «الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948» (للموسوعة نفسها).
كان علمه بالأصول الواحدة للثقافة الشعبية الريفيّة في بلاد الشام، أحد أهم أسباب إدراجه على لائحة الفنانين «المغضوب عليهم»، أيام سطوة دولة الاستخبارات في لبنان في خمسينيّات القرن العشرين وستينيّاته. وهي لائحة أفاد منها بعض كبار منافسيه في ذلك الزمن.
إلى جانب ميزة تنوّع مصادر وجدانه الفني، وهي النادرة في كبار الفنانين، كان زكي ناصيف يمتاز بخزانة مصادر غنيّة، تغذّى منها جميعاً وجدانه الموسيقي والشعري، ومكّنته من إنتاج فن بالغ الثراء في تنوّعه. كانت منابع هذه المصادر على الأقل ثلاثيّة الأصول:
نشأ زكي في بلدة مشغرة، حيث كان وهو طفل، يستمع إلى الغناء الريفي، على رقصة الدلعونا الشعبية، وكان يبكي تأثراً، حين كانت والدته تغني «الفراقيّات»، وهي تقوم بمهامها العائليّة المنزليّة. وكان ينهل من معين الغناء الريفي، أصول المغنّى والميجانا والعتابا والشروقي وأبو الزلف، وأشكال وأنواع الغناء الريفي الشامي الأخرى. كذلك، استمع وهو طفل، إلى أسطوانات الشيخ سلامة حجازي، وغيره من فناني مصر الكلاسيكيّين الكبار في مطالع القرن العشرين، فتملّكت من وجدانه أصول القصيدة العربيّة بمقوماتها الإيقاعيّة والبلاغيّة والمقاميّة. وتفرّع من هذا الفن الكلاسيكي، فيما بعد، استيعابه الكامل لمدرسة محمّد عبد الوهاب وتطويره القصيدة العربية المغنّاة. كان زكي ناصيف يقول لي، في شأن أغنية «يا جارة الوادي»، إن بدنه كان يقشعرّ تأثراً حين بلوغ عبد الوهاب، بيت «لم أدرِ ما طيب العناق» في هذه الأغنية الخالدة. وكان يضيف قوله: «سبحان الذي خلقه».
لم يكتفِ زكي ناصيف بهذين الموردين في الغناء العربي، الريفي في مشغرة، والحَضَري في مصر، بل أطلّ إطلالة جادّة على الموسيقى الغربيّة، حين درس العزف على آلة الفيولونسيل وآلة البيانو، مع أركادي كوغل وابنه، في الجامعة الأميركيّة في بيروت طوال ستّ سنوات في الثلاثينيّات.
وقد ظهرت في موسيقاه وأغنياته فيما بعد، ثمارٌ منوّعة، على قدر تنوّع هذه المصادر التربويّة الموسيقيّة. ورغم هذا التنوّع، فإن موسيقى زكي ناصيف وأغنياته، اتّصفت بالأصالة والصدق الفني، على اختلاف تنوّع مصادرها، وتفاوت انتماءاتها الأنثروبولوجيّة والثقافيّة المتباينة. وينمّ هذا عن عمق تفهُّم زكي ناصيف لما كان يكتسبه من ثقافته الموسيقيّة، أو من علومه الأكاديميّة.
نرى كلاسيكيّته الحضَريّة العربيّة الأصيلة، أفي الموشّح أم القصيدة أو غيرهما، في أغنيات عديدة، مثل أغنيتي فيروز، موشح «سحرتنا البسمات»، أو قصيدة «أهواك بلا أمل». كذلك نلحظ نزعته الكلاسيكيّة العربية الخفيفة، في أغنيات عديدة حفلت بها المهرجانات الموسيقيّة، أو البرامج الإذاعية التي كان يشارك فيها، عبر إذاعتي لبنان، أو الشرق الأدنى في بيروت، مثل أغنية صباح «يا ليلى فرحنا فرحنا لمّن طليتي علينا»، أو أغنيته البديعة «يا عاشقة الورد»، أو تلك الأغنيات التي استندت إلى إيقاعات راقصة.
غير أن أعظم ما تميّز به فن زكي ناصيف، وتفوّق فيه على أقرانه من كبار الموسيقيين اللبنانيّين، ولا سيّما في «مهرجانات بعلبك» أو «مهرجانات الأنوار»، أو غيرهما من المهرجانات الشعبية التي راجت في الستينيّات والسبعينيّات، كانت تلك الدبكات التاريخيّة، التي رفعت نوع دبكة الدلعونا وشكلها، إلى مرتبة الفن الكلاسيكي الراقي. نذكر من ذلك دبكة «طلّوا احبابنا طلّوا» (مهرجانات بعلبك 1957، ثم غناها وديع الصافي 1959)، أو دبكة «صبّحنا بفجر العيد» (1959)، أو دبكة «سهرنا سهرنا وما نمنا»، الرائعة، و«ليلتنا من ليالي العمر» البديعة (1960). دبكات توّجتها، دبكة تاريخيّة شارك في غنائها كلٌ من وديع الصافي وصباح «يا بلادنا مهما نسينا» (مهرجان أرضنا إلى الأبد ـــــ 1964). هذه الدبكة الأخيرة بلغت بدبكة الدلعونا أعلى ذروة عرفناها، لا من حيث غناء وديع المدهش، ومجاراة صباح له بجدارة فيها فقط، بل أيضاً بالزخم الوجداني الكاسح الذي تميّز به لحن زكي ناصيف. بهذه الدبكات، بلغ زكي الذروة، حيث لم يجاوره أحد في هذا الفن الريفي الأصيل. في محاضراتي الجامعيّة في الجامعة اللبنانيّة، كنت أحياناً أحاول تجنّب إسماع الطلبة دبكة «يا بلادنا مهما نسينا»، حتى لا يروا الدمع ينهل من عينيّ، لما في هذه الأغنية من تدفّق في المشاعر والأحاسيس الصادقة.
وإنني أجزم، أنّ جميع المهرجانات الشعبية الفولكلوريّة التي شهدها لبنان بين خمسينيّات القرن العشرين وسبعينيّاته، لم تشهد أي دبكات بهذا المستوى، أو ما يجاريها من قريب، في روعة الأحاسيس التي تبثها، والحماسة التي تحييها، وفي جمال الألحان التي تترنم بها، والأصالة الشعبيّة التي تتملّكها.
رفع دبكة الدلعونا وشكلها، إلى مرتبة الفن الكلاسيكي الراقي


ولا يكتمل الحديث عن تنوُّع الأنساق الموسيقيّة والشخصيّات الفنية التي ظهر لنا بها زكي ناصيف بصدق وأصالة، إذا أغفلنا الشخصيّة البدويّة التي نزعت إليها بعض أغنيات زكي ناصيف، من دون أن تبتعد عن الصدق والأصالة قيد أنملة. ومن أجمل النماذج التي خرج بها علينا زكي ناصيف في اللون البدوي، يكفي ذكر «اشتقنا كتير يا حبايب»، أو «يا رفيق الصبا». كذلك، لا يكتمل الحديث عن ذلك التنوّع عند هذا الفنان الكبير، إذا أغفلنا، فريدته الوحيدة، مغناة «يا بني أمي» التي امتازت بصفة «الموسيقى الكبيرة»، لولا أنها اشتكت فقراً ملحوظاً في التوزيع الموسيقي، وهو افتقار اشتكى لي منه الفنان الكبير، عازياً إياه إلى شحّ موازنة الإنتاج.
إذا انتصب ميزان التاريخ لكبار الفنانين اللبنانيّين في القرن العشرين، فلن نظلم أحداً إذا قلنا، إن وديع الصافي وصباح كانا ملكَي الغناء الريفي الفولكلوري المتوّجين في بلاد الشام، فيما كان زكي ناصيف ملك التلحين في هذا النوع الحضاري الذي يشمل كلاً من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن وبعض مناطق العراق.
إضافة إلى هذا، يمكن القول بكل ثقة، إن زكي ناصيف تفوّق على غيره من زملائه الموسيقيّين اللبنانيين، بأن التوازن بين ثقافته ووجدانه، أي بين مقدار العلم عنده، ومقدار الموهبة لديه، كان توازناً تاماً، لم يغلب فيه جانب على جانب، ولم يُتَح مثله لدى كثير من الآخرين الكبار. وفي ذلك تفسير لعنوان كتابنا «زكي ناصيف ـ الموهوب العالم» (دار نلسن ـــ بيروت ـــ 2016).

* باحث ومؤرّخ وناقد موسيقي لبناني