تحسّس أنطوان ملتقى (1933) ابن وادي شحرور خشبة المسرح طفلاً في المدرسة، ثم يافعاً مع مسرحية Alzire لفولتير بالشراكة مع فرقة الضيعة في الهواء الطلق، وصولاً إلى انخراطه في الجامعة كهاوٍ للتمثيل في عروض معظمها لشكسبير الذي تأثر فيه وأحبّه وتعمّق بنصوصه، فكان يحفظ بعضها ويستمتع بتشخيصها لطالبة الحقوق لطيفة شمعون التي التقاها في الجامعة قبل أن يتزوجا عام 1959. انطلق نشاطه المسرحي على طريق الاحتراف مع منير أبو دبس في «فرقة المسرح الحديث» عام 1960، بدءاً بمسرحية «ماكبث» التي لعب أنطوان شخصيته أمام لطيفة (ليدي ماكبث). في عام 1961، تابع الزوجان نشاطهما في الفرقة في عملين إضافيين هما «أوديب ملكاً» و«أنتيغون» بتوقيع أبو دبس قبل أن يقع الخلاف الذي بدأ نظريّاً ثم تحوّل تطبيقيّاً بين أنطوان والأخير في مسألة المفاضلة بين المخرج والممثل لإنجاح العرض المسرحي، حتى قال أنطوان جملته الشهيرة: «لو أردت أن أقدم تحديداً لفن المسرح، لسمّيته فنّ الممثل».

في نهاية 1961، افترق الرجلان وانهمك أنطوان في تأليف فرقته الخاصّة «حلقة المسرح اللبنانيّ» مع شريكته وآخرين هم: إدوار أمين البستاني، ميشال بصبوص، فرنسوا الخوري، يوسف أبي شاهين وناظم جبران، من أجل تحقيق مشروع نهضوي ثقافي مسرحي يحملُ أهدافاً معاصرة طموحة بين النظرية والتطبيق قياساً على عمر المسرح المحلي الوليد حديثاً. وكان من تلامذة الحلقة: نبيل أبو مراد، الياس الياس، رئيف كرم، فؤاد ومنير الغاوي وغيرهم، لينطلق الإنتاج المسرحي وقتذاك في حزمة من العروض أخرجها ملتقى من بينها: «ماكبث» (1962)، و«ضاعت الطّاسة» (1966)، و«كاليغولا» (1967)، و«نقطة عالسطر» (1980)، و«سمسم» (1966). أما «الإزميل»، فطار بها إلى «مهرجان نانسي» في فرنسا عام 1965 بطلب من مدير المهرجان آنذاك جاك لانغ (وزير الثقافة الشهير في عهد ميتران لاحقاً) منجزاً تحفة أدخل فيها ملتقى تقنيتَي الحكواتي وخيال الظل بحيوية فنية مطلقة قلّ نظيرها.
اختلف مع منير أبو دبس وقال جملته الشهيرة: «لو أردت أن أقدّم تحديداً لفنّ المسرح، لسمّيته فنّ الممثل»


بزاوية الرؤية نفسها، شاركت لطيفة ملتقى (1932) زوجها أنطوان في كامل أعماله المسرحية، فلعبت دور ألكترا في «الذباب» (1963) وسونيا في «جريمة وعقاب» (1963)، والليدي آن في «ريتشارد الثالث» (1964) وهي الأمّ في «عرس الدم» (1964) إلى أدوار أخرى نخبوية مأساوية التزاماً بأفكار أنطوان الذي انحاز إلى الخيار التراجيدي من النص إلى العرض، إلا أنها لم تتأخر عن خيار الإخراج ناهلةً من الريبرتوار الغربي أيضاً، لكن في توجه رؤيوي مُشاكس لأنطوان، ترجمتهُ شخصيتها المرحة بالفطرة في عروض واقعية مزجتها بروحية العبث والكوميديا السوداء والالتباس والنكتة والحركة والقفشات، وهي: «أنا ناخب» (1969)، «يوم تاريخيّ للعالِم يو» (1971)، «وصية كلب» (1972)، «زيارة السيدة العجوز» (1987)، «حرب بالطابق الثالث» (1993)، «مهاجر بريسبان» (1999). أما «عشرة عبيد زغار» فقد لا يعلم معظمنا أن لطيفة أعدتها عن أغاتا كريستي وأخرجتها للمسرح عام 1973، فكان نجاحها محفزاً قوياً لإعادة تمثيلها في المسلسل الشهير الذي حمل الاسم نفسه عام 1974 على شاشة «تلفزيون لبنان» بتوقيع جان فياض، اقتباس وسيناريو وحوار لطيفة نفسها التي شاركت في التمثيل إلى جانب زوجها أنطوان مع فائق حميصي، وكميل سلامة، وميشال بطرس، وناجي معلوف، وأرليت حدشيتي، وسميح عشقوتي وآخرين. يمكن الجزم هنا بأن لطيفة ملتقى، رائدة النساء المُخرجات في تاريخ المسرح اللبناني الحديث، وإن لم تنل حقها من البحث والدراسة في هذا الحقل الإبداعي السابق لعصره وقتذاك، عطفاً على ما تمتعت به من خبرات في الأداء واقتباس النصوص المترجمة ولبننتها مع الحفاظ على روحيتها الخالصة في نصها الأصلي. لقد قدم أنطوان ولطيفة ملتقى ثمانية عشر عملاً مسرحياً مشتركاً، بين عامَي 1962 و 1999 أخرجت لطيفة سبعة منها والباقي أنطوان، وتبادل الاثنان التمثيل في بعضها، في مسيرة أربعين عاماً من العطاء، لطالما ائتلف فيها الاثنان في أكثر من مسألة مسرحية، منها مبدأ أنطوان في تقديم الممثل على المخرج الذي أيدته لطيفة كأساس في نجاح العرض، باستثناء النقد الذي احتفى به أنطوان مقدّراً ما أعطاه النقّاد للحركة المسرحيّة من زخم كبير في المرحلة الذهبية للمسرح اللبناني الممتدة بين أوائل الستينيّات حتى عام 1975 بينما رأت لطيفة، وهي باحثة وأستاذة جامعية، أنه مع اقتناعها بأهمية الناقد ودوره، إلا أنّ النّقد المسرحيّ الجادّ في لبنان شبه معدوم، عازية ذلك إلى انعدام التخصّص العلميّ في هذا المجال، وخروج النقّاد بعد انتهاء العرض بانطباعاتٍ شخصيّة تتساوى مع المُشاهد العادي، رغم احتفاء أكثر من ناقد بما قدمته هي نفسها للمسرح تمثيلاً وإخراجاً.
تجربة آل ملتقى في دور المسرح ووظيفته، كمشروع رؤى جديدة، جسّدت اشتقاقات التنوّع المسرحي الحداثي في لبنان، ولامستْ قضايا الوجود والحرية والمصير وأحلام المواطن اللبناني بالتغيير، وعلاقته بالآخر، والمثقفين بالسلطة، في عروض ذهنية بأبعاد فلسفية كلها مترجمة أو مقتبسة ومستوحاة من المفاهيم الاجتماعية الغربية، خاطبت جمهور النخبة وشدّته إلى شباك التذاكر، لكنها لم تنزل إلى الشارع العريض، باستثناء ثلاثة نصوص أصيلة موضوعة محلياً هي «الإزميل» لأنطوان معلوف، و«سمسم» لإدوار البستاني، و«نقطة عالسطر» لناجي معلوف. لم يتنبّه الزوجان إلى أنّ النص الغربي لا يمكنه طرح أسئلة الهوية الاجتماعية التي هي خيار وطني بالضرورة، بصرف النظر عن تعريف موحّد لهذا الخيار بين اللبنانيين. كما لم يستلهما التراث العربي في شيء لأجل ذلك، والتصدي لتحديات ربط مسرحهما بسياقه التاريخي المحلي/ القومي كما يجب، كي لا يخرج من حركة التاريخ المسرحية/ الثقافية تحت وطأة تغيّر المعطيات السياسية والاجتماعية وتقادم الزمن.


على ضفةٍ مقابلة، أربكَ الثنائي الساحة المسرحية بمحاولات الجِدّة والابتكار في مكونات العملية المسرحية وتقنياتها، وسلكا درب التجريب والاختبار الممتد من ثقافة عميقة بالمسرح العالمي، مبتعدَين من تبني أي مرجعية مسرحية تنظيراً وتطبيقاً بالرغم من التفاعل الواضح مع نظريات ستانيسلافسكي وبريخت ومايرخولد وأنتونان آرتو وجان فيلار وغيرهم. اختص أنطوان في طرح مروحة أفكار وآراء متجددة للإخراج والتمثيل والفضاء المسرحي، تنطلق من وجوب أن تختفي رؤية المخرج لمصلحة نجاح المسرحيّة ككلّ مُتكامل، بعد أن يقوم بالجانب المنوط به إتمامه في هذه المهمة، فاتحاً المجال لإتمام غيره ما يتعلق به منها، كأن يأخذ المؤلف مكانه الطبيعي في إطلاق فكرته التي تصلح للعبور إلى العرض لغايةٍ إنسانية. أما الممثل، فقد جاء تفضيله حركةً تجريبية اختبارية بامتياز، ذات بُعد سيكولوجي، يرى حتمية أن يبدأ باكتشاف نفسه ويعي أعماقه كإنسان وصولاً إلى التعبير على الخشبة في عملية استنطاق لطبيعة التشخيص وخصائصه، وأن يتمتع بثقافة مُلزِمة له، تلمّ بطبيعة الأحداث التاريخية التي تحيط بالشخصية التي يمسرح حكايتها ويراد لها الإقناع، إلى اللغة واللفظ، وحركات الجسد، وتمارين الاسترخاء والتركيز وفهم النص وتفكيك رموزه ومواءمته تقنيات الأداء وجاهياً أمام الجمهور، في حين تولت لطيفة تدريس تقنيات الإلقاء وتمرينات الصوت وتوازنه مع الشعور الداخلي للممثل. ركّز أنطوان على مسألة المكان المناسب للعرض وشكل الخشبة وهندستها والمسافة الواجبة بينها وبين النظّارة، متجاوزاً وظيفة الديكور التقليدية إلى الإيحاء بما يُبرز المسرَحَة ويؤثر في نوعية التلقي. لقد اعترف أنطوان أكثر من مرة بأن الحياة تسارعت به جداً، فلم تسعفه في المضي بمحاولات دائمة لتفسير رؤى وخوض تجارب كي لا يظل سجين التقليد والتكرار. مع ذلك، فاضت رؤاه ولطيفة عن قواعد «أبي الفنون»، عن المفضول إلى الأفضل في تطور العمل المسرحي بوصفه مساحة للتحرر والتطور والقول والاحتفال، حيث لا يمكن إنكار أنهما كتبا مناخهما الفني في ملامح مدرسة فرجوية جديدة، ربما لم تجد طريقها درساً إلى الفضاء العربي الواسع، إلا أنها قدمت مرجعية مسرحية محلية لتثوير الفن، أقله لصانعي المسرح في لبنان.

يصلّى عليه عند الثالثة من بعد ظهر السبت 24 شباط (فبراير) في «كنيسة سيدة لورد» في منطقة فرن الشباك، ثم يوارى الثرى في مدافن «مار يوحنا المعمدان» في وادي شحرور السفلى. تقبل التعازي قبل الصلاة وبعدها في صالون الكنيسة ابتداء من الساعة العاشرة قبل الظهر حتى الثالثة عصراً، ومن الساعة الرابعة والنصف عصراً حتى السادسة مساءً