طرح المسرح الدائري والمفهوم الحكواتي في المسرح
وقع الانسحاب من مدرسة «المسرح الحديث» بعيداً من الاتحاد القديم. ثمة اتحاد جديد وجد مقره في راشانا. هناك، تحلق المتمرّدون على تجربة أبي دبس، سموا تجربتهم «حلقة المسرح اللبناني». بداية الرحلة مع أنطوان ملتقى في المدرسة ثم، في الحلقة. بدايتان. صمّم الرجل بداية الحياة المسرحية في لبنان مرتين. لم يقف الأمر هنا، لأنها أسابيع قليلة فقط على دفع أنطوان ملتقى المدرسة والحلقة إلى تزايد المنافسة بينهما، حتى وصلت المنافسة إلى تقديم المسرحية نفسها في مهرجانين. أبو دبس في «مهرجانات بعلبك». ملتقى في «مهرجانات جبيل». أقام التنافس مقام المسرح اللبناني، حين أدى التنافس وظيفته في استقطاب الوجوه والمواهب الجديدة. وجوه ومواهب لم تلبث أن بذلت قصارى الجهد لتقديم جهودها الخاصة في مسرحيات وأعمال مسرحية تواصلت بحيث راحت الواحدة منها تسلم على الأخرى من دون أن يعرف أصحابها أنهم إنما يشقون طريق التجربة. تجربة المسرح في لبنان. أسهم ملتقى إذن في إطلاق ثلاث تجارب: تجربة التلفزيون، تجربة مدرسة المسرح ثم تجربة الحلقة. سوف يقود الأمر إلى المضي في المساهمة الفعلية في فرش أضواء جهوده في قيام المسرح في لبنان. ثم إنه أسهم في تركيز انتباه لجنة مهرجان بعلبك على المسرح.
مؤسس دائم أنطوان ملتقى. مؤسس لا يهدأ وهو يدفع إلى الارتقاء في مراجعة النتائج. الفراش لا الكراسة. يذكر دوماً بالانطلاقات، بوجود القليل من شروط الانطلاق. دؤوب. موهوب، هذا كلام لا يشار به إلى أحد أعظم الممثلين والمخرجين والدراماتورجيين في عالمنا وعالم العرب. يضعه بعضهم في طقوس شكسبير. يضعه بعض آخر في طقوس بريخت، أو في طقوس معلم المسرح ستانسلافسكي. ملتقى لا يجد نفسه مضطراً إلى الاعتراف بالوقوف في خانة. إذ إنه في كل الخانات. أداؤه يؤدي إلى الغموض عبر اللعب وعبر أشياء يقولها. الغموض من صفات من يجربون لا من يميلون إلى كتابة التقارير. لكنه يشعر دوماً بعدم الرضا. يعتقد أن الصور الصادقة تقود إلى الصور الصادقة. لم يهدأ وهو يقيم في الصدق بشخصية لم تهجر الصدق. ذلك أن ما فعله يؤدي وظائفه. ذلك أن كلامه يؤدي وظائفه. كلام شجاع لا يهاب أن لا يعثر الآخر على شجاعته فيه. يقول ما يقول ويضع نقطة على آخر السطر. تجريبي، تتألق شمسه في ذوبان الثلوج عن الربيع. ربيع المسرح. ذات يوم، حدث أن صفع جلال خوري على الهواء لأنّ خوري أجبر نفسه على كلام لا يناسبه. لم يروِ أحد ما حدث. وجدت نفسي كالقبرة بين نسرين على هواء «تلفزيون لبنان». نسر كجسر حديدي. ونسر كجسر خرج على مفهوم المباني الصرحية. انقض النسر على الآخر، كما تنقض حركة المرور على الطرقات. سمع صوت ارتطام وتحطم عظام. سمع صوت تهشّم. هذا ما فعله على الدوام. يقف في ندوة يعلي فيها صوت أحد النقاد لأنه خريج مسرح. لا يقرر في المسرح من لم يدرس المسرح. هكذا يرى. سوف يلقى المدعي حتفه بين يديه، في عينيه، في لهجته الكاسرة، وهو يؤكد على أن الضجة ليست كصوت سرب هائل من النحل يقوم على تفاصيله في عمارته. مسرحيته عمارة. مسرحيته تقمع الذهن الجاهز. طرح المسرح الدائري. طرح مفهوم الحكواتي في المسرح. طرح الشعرية كمعادل للمسارح المانعة للمسرح الحقيقي. حالاته المزاجية واحدة من عناوين حياته. عقله. لكن إحساسه هو طوفه، في حالات الجمع بينه وبين المزاج والعقل. لذا، انقضت حياته على مشهده الأول، شعر متروك على بياض، نظارتان سميكتان، ربطة عنق أميركية في المناسبات، قوة، انطلاق مفعم بالسعادة والتشاؤم. شخصية تنطح. شخصية ناطحة سحاب. مبلور الشعور من القدمين إلى أعلى الرأس. برهن في أكثر من موقعة أن العبقرية لا تهمّ، هو عبقري مسرح تفوق عبقريته العبقرية في نحوها المجرد، في معناها المجرد .
كأنه زورق يصطاد السمك في أوقات، زورق سريع في أوقات يبحر خلف الخطط من دون توقف على ماء. زورق في هواء. حريق يشب من دون توفر العناصر. عند ملتقى القدرة على أن يدلع حريقاً من دون توفر عناصر الحريق. كأنه يعتزم القفز من فوق جسر. تمثال حريته نفسه. يشارف على الهلاك كل من لا يمكنه أن يقرأ في المسرح. متعصّب لمعهد الفنون، طلاب المعهد لأنه لم يبنه كنصب تذكاري، حين أسهم في إنشائه ووضع له منهاجه. مبدع يمقت حالات الالتواء، لأنه يرى فيها مرضاً تتجمع فيه فقاعات النيتروجين في مجرى الدم.
لم أشاهده منذ أعوام. لكني أراه كلما مررت عند زاوية شارع منزله في منطقة فرن الشباك. إذ ذاك، أتذكر تلك الأيام. آه تلك الأيام. تلك الأيام السعيدة. سعادة الانتصار على عجز مارون النقاش. سعادة أنطوان ملتقى ورفاقه ممن قولوا المسرح بأكثر مما يقول. كل مسرحية حدث. مسرحياته، كل مسرحية حدث. «زيارة السيدة العجوز»، «ماكبث»، «ضاعت الطاسة» واحدة من المسرحيات العالية في تاريخ المسرح، «الإزميل»، «كاليغولا»... عشرات المسرحيات. مواليد وادي شحرور عام 1933 تزوج لطيفة شمعون، إذ وجدها ملمّة بالحقائق لا من كونها محامية، من كونها امرأة تلتزم اليقظة وهي تمضي في نسيم صباحه، نسيم صباح المسرح. ينطلق معها من الدار ويعودان معاً. يعود معها إلى الدار والمسرح على الوقت الطويل، الطويل. «البزاقة» و«حرب في الطابق الخامس» من آخر أعمالها. وجد ملتقى عند باب المسرح يوزع المنشور الخاص في مسرحية الزوجة كولد عجوز. شق طريق النهر. ثم ترك النهر يعبر أمامه من دون أن يذعر من مرور النهر لأنه لم يفكر يوماً بحياة هانئة، قدر ما فكر بالطلقة. المسرح طلقته، حتى حين غادره متذكراً أباه فيه، طفولته، منطقته، حياته. لن يذعر من وقت انقضى وراح. ثلاث وتسعون، هذا زمن قليل على مبدع في مقامه. نفى نفسه في بلاد تخصّص ساستها بنفي كل من يروي القصص. لكنه بقي على المشاعر نفسها. رجل رعدة. رجل في حالة حركة تلقى الانطباع الواضح والرهيب. رجال بوزنه يغادرون، لكنهم يعودون إلى مقتبل العمر وهم يحومون حول أجسادهم في آخر طلعاتها محفوظة في ذاكرة الناس، في وجدانهم عن ظهر قلب. بغيابه يفقد المسرح جزءاً واسعاً من نظام حمايته. في غيابه يفقد المسرح أنطوان ملتقى من مضى إلى التزلج في موضع ضلّ فيه أبوه، رغم أنه ما عرف أن أباه ضلّ هناك.