لم يصوّب أنطوان ملتقى على سعادة وسط الليونة. لم يتطلّع سوى إلى أعلى النوافذ، لأنه وجد في أعلاها مداخل التحقيق. التحقيق لا التنفيذ، لأنّ الرجل حقق ما بوسعه، انطلاقاً من الإجراءات القديمة، بالحدس والعزيمة. البُعد الثقافي أولاً. وحين لم يجد إجابات مرضية، دخل في ظلام الصالات صعداً، صعداً إلى الوقوف على أسلوبه. لا علاقة للأمر بالتقارير. لا علاقة للأمر سوى بالحقائق المتعلّقة بالمسرح. والحقائق المتعلّقة بالمسرحي. الغد في الذهن. لكن المسرح لا يقدم الطمأنينة. لم يتردد ملتقى في إجلاء الظلام، ثم في الدخول في العالم كما لو أنه يتصفّحه. كما لو أنه يعبر من كولمبوس إلى «كارنيغي هول». وإذ وقع في التحري لم يقع في روتين التحريات. لم أغدُ مختلفاً إلا حين شاهدته في «عشرة عبيد زغار». ابتكر حشداً من التفاصيل، من البطن إلى العينين، من دون انحدار في شخصية تتحول فيها العاطفة بسرية شديدة. أداء ضد الحيرة. ضد الخواء. حل عليَّ كما حلت مصاصات الدماء في أفلام «سانتو». أداء يوقف حركة المرور من قوته على إشاعة الخوف. أخافني أكثر مما أخافتني مصاصات الدماء في «سانتو المسكاراتي دي بلاتا». لا أحاول تخمين الهدف في إثارة الرعب في أداء أنطوان ملتقى ولا في أداء الممثلات الأرجنتينيات ممّن وجدن أنفسهن في ظلام الصالات الشعبية. لكن الخوف ينعش. الخوف ينعش الفقراء، من لا يستطيعون أن ينعشوا أنفسهم كما تنعش الندرة نفسها. الخوف يطهر. سأكتشف الأمر بعد زمن. أداء ملتقى منعش. ينعش الحقائق، حتى وهو يقود المشاهدين عبر التنقيب عن قاتل مفتوح العينين دوماً على اغتيال واحد من العشرة عبيد صغار. واحد في كل حلقة. كلام يقوم بالكلام على من لا يصادف عناء في الأداء التمثيلي. هؤلاء لا يمتدون على مساحة واسعة لأنهم نادرون. أنطوان ملتقى ممثل نادر، لا يعتقد أحد غير ذلك بشأنه. كلما أطلّ، وجد الرائي أن أسلوبه يتمثل بالحقائق الخارجية والداخلية سواء بسواء، بعيداً من وصف الأحداث لأن الوصف يغتال الصراع. لا دراما بلا صراع. حين لم يعد يرى على الشاشات وعلى المنصات، بدأ كأن شيئاً دفعه إلى الاختفاء، بحيث اختفى معه كل ما لا يمكن التحقق من دقته في فن التمثيل سوى معه.تكريس النفس للمهمات. هذه طريقه. كل شيء معه دقيق. لذا، لن يجد الإغواء طريقه إليه. نحّى الأمر جانباً ومضى إلى الموائد المائلة محاولاً أن يوقفها بعيداً من ميلانها. أستاذ الرياضيات والفلسفة، لم يعكف سوى على قصص المسرح المختلفة بعيداً من الفلسفة والرياضيات. عنده أن ما حدث، ليس هو حقاً ما وقع. عكوف على الإنجاز لأن كل ما وسعه أنجزه. ما لم يسع الآخرون إنجازه أنجزه. رفع مصابيح المسرح إلى سقوفها. رفعها للمرة الأولى في تجربة المسرح، لأن بداية المسرح الثقافي، بداية تليق بالمقام، مقامه. هكذا وجد في «ماكبث» عودة المسرح الثقافي إلى الأيام بعد سقوط مارون النقاش في آلته الناسخة الأوبرا بوفا. أولى المسرحيات في لبنان والعالم العربي مسرحية غنائية «أوبرا بوفا». دهب إفرنجي أولاً، ثم، فن لا أفق له في بلاد الشرق. إذ ذاك، انتهى صوت المسرح البهيج في مسارح البعثات الأجنبية والمدارس الدينية. انتظر اللبنانيون مئة عام على انتهاء النقاش من المسرح كي يعيدوا المسرح إلى البداية. بداية جديدة. إنها قصص حياة. قصص المسرح قصص حياة. مات النقاش مغموماً، ليدفع مجموعة من لا يقبلون بأن يؤدوا الوظائف وحدها إلى التطلع في أرجاء حجرة المسرح مرة أخرى. جاء منير أبو دبس من باريس مع بعثة إطلاق «تلفزيون لبنان»، ليجد نفسه بالغاً قصارى الجهد في «تعبئة» هواء التلفزيون. بث مباشر. لا تسجيل. لا إعادة. لم تنقضِ الأيام إلا على طلبه مجموعة من الأصدقاء لكي يؤلف بداية المسرح الثقافي. مسرح يحكي عن نفسه، مسرح يحكي عن أنفس من اشتغلوا به كما لو أنهم جماعة خرجت من المغلفات. لكنها في خروجها وجدت نفسها على غصون الأشجار. عصافير مغرّدة. ذلك زمن البدايات، مدرسة المسرح الحديث، الأسماء المؤسسة. أنطوان ملتقى وريمون جبارة أولاً. إثرها، وجد ملتقى وجبارة أن مسرح أبو دبس لا يدفعهما إلى أن يساورا نفسيهما بالارتياح. إنه يقرأ عليهما من كتاب خفي وجدوه بعد مدة: «إعداد الممثل» لستانسلافسكي. لم تتحسن أحوال الطقس في مدرسة «المسرح الحديث»، لأن من اندغموا به، إذ وجدوا مواضعهم فيه لن يعودوا يجدونها بعد زمن. تشنجات وإبهام لا إيهام، ولغة فصحى لأنّ أبو دبس وجد أن الفصحى تغرّب. الأهم أنهم اكتشفوا أنهم لا ينوجدون على خشبة المسرح وهم موجودون عليها. ذلك أن أبا دبس الفنان التشكيلي، حدث نفسه بالتشكيل على المسرح عبر إضاءة أجزاء من وجوه الممثلين بحيث أفلح في إخفائهم. وحين سمع بعضهم رفاقهم على المنصة يبرطمون وسط الظلام، حين حاولوا قول ما حاولوا قوله ليسقطوا في البرطمة، أصابهم ضحك كأنه ضحك الفَزِع لا ضحك المرتاح. امتد الضحك يومها. ثم امتد الشك. هذا مسرح منير أبو دبس لا مسرحهم. مسرح يمشح نفسه بحضورهم. يمشح النفس فقط. إنهم ممثلون لا عضويين ولا تنزلق حيويتهم في حيوية المسرح.
طرح المسرح الدائري والمفهوم الحكواتي في المسرح


وقع الانسحاب من مدرسة «المسرح الحديث» بعيداً من الاتحاد القديم. ثمة اتحاد جديد وجد مقره في راشانا. هناك، تحلق المتمرّدون على تجربة أبي دبس، سموا تجربتهم «حلقة المسرح اللبناني». بداية الرحلة مع أنطوان ملتقى في المدرسة ثم، في الحلقة. بدايتان. صمّم الرجل بداية الحياة المسرحية في لبنان مرتين. لم يقف الأمر هنا، لأنها أسابيع قليلة فقط على دفع أنطوان ملتقى المدرسة والحلقة إلى تزايد المنافسة بينهما، حتى وصلت المنافسة إلى تقديم المسرحية نفسها في مهرجانين. أبو دبس في «مهرجانات بعلبك». ملتقى في «مهرجانات جبيل». أقام التنافس مقام المسرح اللبناني، حين أدى التنافس وظيفته في استقطاب الوجوه والمواهب الجديدة. وجوه ومواهب لم تلبث أن بذلت قصارى الجهد لتقديم جهودها الخاصة في مسرحيات وأعمال مسرحية تواصلت بحيث راحت الواحدة منها تسلم على الأخرى من دون أن يعرف أصحابها أنهم إنما يشقون طريق التجربة. تجربة المسرح في لبنان. أسهم ملتقى إذن في إطلاق ثلاث تجارب: تجربة التلفزيون، تجربة مدرسة المسرح ثم تجربة الحلقة. سوف يقود الأمر إلى المضي في المساهمة الفعلية في فرش أضواء جهوده في قيام المسرح في لبنان. ثم إنه أسهم في تركيز انتباه لجنة مهرجان بعلبك على المسرح.
مؤسس دائم أنطوان ملتقى. مؤسس لا يهدأ وهو يدفع إلى الارتقاء في مراجعة النتائج. الفراش لا الكراسة. يذكر دوماً بالانطلاقات، بوجود القليل من شروط الانطلاق. دؤوب. موهوب، هذا كلام لا يشار به إلى أحد أعظم الممثلين والمخرجين والدراماتورجيين في عالمنا وعالم العرب. يضعه بعضهم في طقوس شكسبير. يضعه بعض آخر في طقوس بريخت، أو في طقوس معلم المسرح ستانسلافسكي. ملتقى لا يجد نفسه مضطراً إلى الاعتراف بالوقوف في خانة. إذ إنه في كل الخانات. أداؤه يؤدي إلى الغموض عبر اللعب وعبر أشياء يقولها. الغموض من صفات من يجربون لا من يميلون إلى كتابة التقارير. لكنه يشعر دوماً بعدم الرضا. يعتقد أن الصور الصادقة تقود إلى الصور الصادقة. لم يهدأ وهو يقيم في الصدق بشخصية لم تهجر الصدق. ذلك أن ما فعله يؤدي وظائفه. ذلك أن كلامه يؤدي وظائفه. كلام شجاع لا يهاب أن لا يعثر الآخر على شجاعته فيه. يقول ما يقول ويضع نقطة على آخر السطر. تجريبي، تتألق شمسه في ذوبان الثلوج عن الربيع. ربيع المسرح. ذات يوم، حدث أن صفع جلال خوري على الهواء لأنّ خوري أجبر نفسه على كلام لا يناسبه. لم يروِ أحد ما حدث. وجدت نفسي كالقبرة بين نسرين على هواء «تلفزيون لبنان». نسر كجسر حديدي. ونسر كجسر خرج على مفهوم المباني الصرحية. انقض النسر على الآخر، كما تنقض حركة المرور على الطرقات. سمع صوت ارتطام وتحطم عظام. سمع صوت تهشّم. هذا ما فعله على الدوام. يقف في ندوة يعلي فيها صوت أحد النقاد لأنه خريج مسرح. لا يقرر في المسرح من لم يدرس المسرح. هكذا يرى. سوف يلقى المدعي حتفه بين يديه، في عينيه، في لهجته الكاسرة، وهو يؤكد على أن الضجة ليست كصوت سرب هائل من النحل يقوم على تفاصيله في عمارته. مسرحيته عمارة. مسرحيته تقمع الذهن الجاهز. طرح المسرح الدائري. طرح مفهوم الحكواتي في المسرح. طرح الشعرية كمعادل للمسارح المانعة للمسرح الحقيقي. حالاته المزاجية واحدة من عناوين حياته. عقله. لكن إحساسه هو طوفه، في حالات الجمع بينه وبين المزاج والعقل. لذا، انقضت حياته على مشهده الأول، شعر متروك على بياض، نظارتان سميكتان، ربطة عنق أميركية في المناسبات، قوة، انطلاق مفعم بالسعادة والتشاؤم. شخصية تنطح. شخصية ناطحة سحاب. مبلور الشعور من القدمين إلى أعلى الرأس. برهن في أكثر من موقعة أن العبقرية لا تهمّ، هو عبقري مسرح تفوق عبقريته العبقرية في نحوها المجرد، في معناها المجرد .
كأنه زورق يصطاد السمك في أوقات، زورق سريع في أوقات يبحر خلف الخطط من دون توقف على ماء. زورق في هواء. حريق يشب من دون توفر العناصر. عند ملتقى القدرة على أن يدلع حريقاً من دون توفر عناصر الحريق. كأنه يعتزم القفز من فوق جسر. تمثال حريته نفسه. يشارف على الهلاك كل من لا يمكنه أن يقرأ في المسرح. متعصّب لمعهد الفنون، طلاب المعهد لأنه لم يبنه كنصب تذكاري، حين أسهم في إنشائه ووضع له منهاجه. مبدع يمقت حالات الالتواء، لأنه يرى فيها مرضاً تتجمع فيه فقاعات النيتروجين في مجرى الدم.
لم أشاهده منذ أعوام. لكني أراه كلما مررت عند زاوية شارع منزله في منطقة فرن الشباك. إذ ذاك، أتذكر تلك الأيام. آه تلك الأيام. تلك الأيام السعيدة. سعادة الانتصار على عجز مارون النقاش. سعادة أنطوان ملتقى ورفاقه ممن قولوا المسرح بأكثر مما يقول. كل مسرحية حدث. مسرحياته، كل مسرحية حدث. «زيارة السيدة العجوز»، «ماكبث»، «ضاعت الطاسة» واحدة من المسرحيات العالية في تاريخ المسرح، «الإزميل»، «كاليغولا»... عشرات المسرحيات. مواليد وادي شحرور عام 1933 تزوج لطيفة شمعون، إذ وجدها ملمّة بالحقائق لا من كونها محامية، من كونها امرأة تلتزم اليقظة وهي تمضي في نسيم صباحه، نسيم صباح المسرح. ينطلق معها من الدار ويعودان معاً. يعود معها إلى الدار والمسرح على الوقت الطويل، الطويل. «البزاقة» و«حرب في الطابق الخامس» من آخر أعمالها. وجد ملتقى عند باب المسرح يوزع المنشور الخاص في مسرحية الزوجة كولد عجوز. شق طريق النهر. ثم ترك النهر يعبر أمامه من دون أن يذعر من مرور النهر لأنه لم يفكر يوماً بحياة هانئة، قدر ما فكر بالطلقة. المسرح طلقته، حتى حين غادره متذكراً أباه فيه، طفولته، منطقته، حياته. لن يذعر من وقت انقضى وراح. ثلاث وتسعون، هذا زمن قليل على مبدع في مقامه. نفى نفسه في بلاد تخصّص ساستها بنفي كل من يروي القصص. لكنه بقي على المشاعر نفسها. رجل رعدة. رجل في حالة حركة تلقى الانطباع الواضح والرهيب. رجال بوزنه يغادرون، لكنهم يعودون إلى مقتبل العمر وهم يحومون حول أجسادهم في آخر طلعاتها محفوظة في ذاكرة الناس، في وجدانهم عن ظهر قلب. بغيابه يفقد المسرح جزءاً واسعاً من نظام حمايته. في غيابه يفقد المسرح أنطوان ملتقى من مضى إلى التزلج في موضع ضلّ فيه أبوه، رغم أنه ما عرف أن أباه ضلّ هناك.