ربما لا يرى كثيرون في الراحل كريم مروة (1930 ــ 2024) مفكّراً رومانسياً، أو حتى حالماً، ولكن من المؤكّد أنّ الرجل حاول مراراً وتكراراً أن يجد «ضالّته» بين أفكاره. غرق فيها بالتأكيد. خانته العبارات مراراً، كما خانته مغامرات السياسة ودهاليزها. مفكرٌ لمّاحٌ، وشخصيةٌ لبنانيةٌ لها ثقلها تحليلاً أو تنظيراً لقعودٍ طوال في قضايا سياسية واجتماعية وثقافية... منذ أيام «الوثبة» (الثورة في العراق عام 1948 على اتفاقية «بورتسموث» ضد الإنكليز) التي عرفها شابّاً أثناء دراسته في العراق، وصولاً إلى موقفه الغريب، القاسي، واللامنطقي من المقاومة التي وسمها بكثيرٍ من الصفات التي ليست فيها. كان شيوعياً ولكنه اعتبر أنّ الاشتراكية «كذبة كبيرة»، وأنّه من دون «رأس المال» (يقصد رأس المال الحقيقي، لا كتاب كارل ماركس)، «لا يحصل تغيير»؛ وأنّ الشيوعية انتهت، فـ «ابحثوا عن شيءٍ آخر»، وأنّ «التجربة الشيوعية بأكملها انتهت» لا في منطقتنا فقط، بل في العالم كلّه. عبد الكريم مروة المولود عام 1930، الشيوعي بحسب انتمائه لسنواتٍ طوال للحزب الشيوعي اللبناني، مسؤولاً منذ ستينيات القرن الماضي وعضواً في المكتب السياسي منذ عام 1964 حتى عام 1999 ونائباً لأمينه العام (في المؤتمر الوطني الخامس في عام 1987)، وأحد مفكريه البارزين ومنظّريه، كان في أواخر حياته رافضاً بشدة لتوصيفه «شيوعياً» أو «ماركسياً»، إذ «سمّيت نفسي يساريّاً، لا شيوعيّاً ولا اشتراكيّاً، مع أن كلمة يساري لم يكن لها معنى إلا أيام الثورة الفرنسية، بمعنى ما هو أقرب إلى الواقع والتغيير، فكلمة يساري لا تعني عقيدةً محدّدةً، فيها ميل واتجاه نحو التغيير استناداً إلى بعض القيم التي أخذناها من ماركس، ثم هل هناك قبضاي يصف نفسه بالاشتراكي أو الشيوعي يمكن أن يشرح لي صفته! أكثر من ذلك، في أحد حواراتي قلت: إذا طُرح على شخص رأيه بكلمة شيوعي بعد كل الذي حصل، ماذا يقول؟ إذا كان لديه بعض العقل يمكن أن يردّ: ألا تخجل أن تطرح عليّ هذا السؤال، عمّن تسأل؟ عن أولئك الذين عملوا الكوارث باسم الشيوعية». كانت شيوعيّته «رومانسية» كما أشار أكثر من مرّة؛ تعلّق بها وهو حدثٌ بعد حين قرأ «الأم» لمكسيم غوركي، ولاحقاً عبر نضالات الشيوعيين والجيش الأحمر في مواجهة النازية. حياته في منزل ابن عمّه حسين مروّة، الشيخ الذي خلع العمامة وأضحى شيوعياً، أسهم بشكلٍ كبير في صياغة وعيه: هناك تعرّف إلى شخصيات لها ثقلها الثقافي والأدبي والعلمي أمثال الشاعرين الكبيرين محمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري وشخصيات مناضلة من طينة جعفر الخليلي وحسين الشبيبي (أُعدم مع الرفيق «فهد» عام 1949).
لغته الناقدة كانت واحدةً من سماته انسحبت على معظم كتبه


أبو أحمد، الآتي من قرية حاريص في جنوب لبنان، وابن رجل الدين أحمد مروة الذي وصفه مرةً بأنه رجل «دينٍ ودنيا»، الذي أصرّ أن يعلّمه الدين والقرآن منذ سنواته الأولى، فحفظ القرآن بأكمله وهو صغير، ثم عاد وأدخله إلى «مدرسة اللاتين» وسلّمه بيده إلى رئيسها الأباتي من دون أي نقاشٍ في أساسيات التعليم وضوابطه وفقاً لكلامه في إحدى المقابلات. أمر أدهش الأب المسيحي الكاثوليكي الذي «طلب منّي أن أقرأ له آيات من «سورة مريم» في القرآن لمدة عشر دقائق قبل الدخول إلى الكنيسة للصلاة مع سائر التلامذة: أبانا الذي في السماوات».
كان لمروة الماركسي سقطات غريبة، غير مفهومة، وغير منطقية وخصوصاً بالنسبة إلى شخص مثله. الرفض سمةٌ طبعت مواقفه المتأخّرة، إذ أشار إلى أنّ «الحزب الشيوعي الموجود اليوم لا علاقة لي به، لستُ معه ولست ضدّه، ولم أعد أبالي به». إنها حالةٌ أشبه بالعدمية منها أكثر منها أي شيء. خرج كريم مروة من الحزب لأنّ الأخير «لم يتعلّم من تجاربه السابقة». هل كان مصيباً أو مخطئاً؟ لا أحد يعلم، كل ما يُعرف أنه كان يردّد مراراً وتكراراً: «لا ولن أقبل أن يملي عليّ أحد ما أفعله. هذا ليس وارداً أبداً. أنا من أقرّر بعقلي وأفكاري وقناعاتي». من كان يريد أن يملي عليه ذلك؟ لا أحد يعلم قصده. لغته الناقدة كانت واحدة من سماته انسحبت على معظم كتبه (قرابة 40 كتاباً) التي تناولت التجارب التي عاشها. تجاربٌ عاد وانتقدها بلغةٍ قاسية مباشرة، فانتقد الشيوعية، والماركسية، والتجربة السوفياتية، واليسار العربي، طابعاً الجزء المتأخّر من مسيرته بتحوّلات وقفزات فكرية وسياسية ومصدّقاً كذبة «نهاية التاريخ».