وسّعت قوّات الاحتلال الصهيوني في الأيام الماضية هجماتها على مناطق جنوب لبنان، من الناقورة غرباً حتى شبعا ومزارعها في الشرق. هجمات عبر المسيّرات أو قصف مدفعي مُركّز على مختلف المناطق بينها الزراعيّة، أو تلك التي تتمتّع بغطاء نباتي كثيف، من دون إغفال المنازل السكنيّة... وكما في كل عدوان تُنفّذه على لبنان أو داخل الأراضي المحتلة، يسعى العدوّ لاستهداف البشر والحجر، في محاولة لطمس الحقائق وإعادة نسج سرديّات جديدة تتناسب مع طبيعته الاحتلاليّة ـ الاستيطانيّة، لترويجها في العالم.
بُني المطار بين عامَي 1941 و1945 على أرض كانت بساتين تفاح (كامل جابر)

ضمن هذا السياق التدميري الممنهج، استهدفت طائرات الاحتلال ومدفعيّته بعدد من الصواريخ والقذائف مناطق متفرقة من سهل الخيام في جنوب لبنان (ثالث أكبر سهل من حيث المساحة في لبنان بعد البقاع وعكار توالياً). من بين النقاط التي استهدفتها في السهل، المطار الإنكليزي التاريخي المحاذي للأراضي الفلسطينية المحتلة، بحجة وجود ذخائر تحته أو بالقرب منه. وفي الحقيقة، كلّ ما يحويه هو بعض التبن الذي يعود للمزارعين والفلاحين، والمخزّن بوضوح لفترات الشتاء. هكذا، دُمّرت بعض الآثار المتبقيّة من المطار الإنكليزي، وتحديداً الجدران التي كانت تشكل سابقاً مواقف الطائرات الخاصة بالمطار، وهي آخر الآثار المتبقية منه، بعدما سقطت الأجزاء الأخرى نتيجة الاعتداءات الصهيونيّة السابقة والعوامل الطبيعيّة، فضلاً عن إهمال الدولة اللبنانيّة لهذا المعلم التاريخي.
المطار الذي بُني بين عامَي 1941 و1945 على أرض كانت سابقاً بساتين تفاح، وتحديداً في نقطة إستراتيجية واقعة بين كفركلا والأراضي الفلسطينية جنوباً والخيام شرقاً وبرج الملوك (الخربة) والقليعة غرباً والسهل الممتد حتى قرية دبين وتلّها شمالاً، يعتبر شاهداً على محطات تاريخية عدّة منذ الحرب العالميّة الثانيّة حتى اليوم. بنت القوات الإنكليزيّة هذا المطار، ليكون محطة مهمّة في حرب الحلفاء مع قوّات المحور خلال الحرب العالميّة الثانية. وأسهم في إنجاز المهمّة أبناء المنطقة الجنوبيّة، بخاصة أهالي الخيام والقرى المجاورة الذين عملوا كمياومين. وفي هذا السياق، يتناقل أبناء هذه المناطق قصصاً عن أجدادهم تتعلق بالمطار، وكيف أنّه لم يكن ناجحاً، إذ تحطمت فيه العديد من الطائرات، على اعتبار أنّ موقعه بين مجموعة تلال لم يكن مساعداً على هبوط وإقلاع الطائرات.

دُمّر المستشفى بالكامل في عدوان 2006 (كامل جابر)

ولم يكن المطار المنشأة الوحيدة التي بنتها القوات البريطانية في سهل الخيام، إذ شيّد أيضاً مستشفى عند مدخل قرية الخيام الغربي، وتحديداً عند بركة الدردارة، حيث كان عبارة عن غرف وممرات تحت الأرض، هدفت حينها إلى تأمين مراكز علاج للجنود الذين يمكن أن يصابوا في الحرب أو في اشتباكات مع قوات ألمانية يمكن أن تدخل عبر مصر باتجاه لبنان وسوريا من فلسطين. والمستشفى الذي رُمّم بعد تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني عام 2000، وأعيد بناء كل شيء فيه وفق ما كان، طاله قصف صهيوني عنيف وهمجي، أدّى إلى تدميره بالكامل في عدوان تموز 2006، ولم يبقَ له اليوم أي أثر.
ما فعلته إسرائيل بالمستشفى، كرّرته اليوم مع آخر آثار المطار المتبقية، كما استهدفت بالمدفعية وصواريخ المسيرات الدّشم الإسمنتية الإنكليزية المنتشرة في تلك المنطقة من سهل الخيام، كما وادي العصافير شمال الخيام، والطريق الممتدة نحو الوزاني عبر قرية سردة. وهذه الدّشم هي عبارة عن مكعبات كبيرة جداً من الإسمنت والحجارة تعود إلى عام 1941، نشرتها القوات البريطانية في محاولة لمنع أي تقدم للقوّات الألمانية أو لقوّات حكومة فيشي التي كانت تابعة لألمانيا النازية.
وربّما تدمير الكيان الصهيوني لكل هذه الآثار وما تبقّى منها اليوم، هو انتقام، لأنّ بريطانيا أرادت أن تعطي هذه الأرض (جزء من سهل الخيام) منذ 1948 لـ «إسرائيل» التي منحتها اسم «أرض اليهود». غير أنّ الجنوبيين تمكّنوا من تحريرها، ومنعوا سلطات الاحتلال من الحصول على هذه التركة ــ السرقة البريطانية. كما أنّه، طوال مدة احتلالهم للجنوب اللبناني، لم يتمكن الصهاينة من استثمار هذه الأماكن الأثرية نتيجة العمل المقاوم المستمر. ولهذا، يحاولون اليوم تدمير كل ما تبقّى، تماشياً مع طبيعتهم الهمجية.