عن دار البيان العربي (بيروت)، صدرت أخيراً مجموعة شعرية للشاعر باسم عباس (مواليد دير قانون رأس العين – 1957) بعنوان: «أراني أعصر عمراً». في احتفال توقيع هذه المجموعة الشعرية، ألقيت كلمة/ تحية لباسم عباس، تحدَّثت فيها عن نسق في شعر هذا الشاعر المبدع، في هذه المجموعة وفي مجموعات أخرى صدرت من قبل، هي: «جرعة من لهيب الشمس» (1985)، و«تجاعيد المسافة» (1990)، «سلال الوقت» (1991)، و«عشب الحنين» (1995)، و«مرايا شاغرة» (1999)، و«يداك حدائق العشاق» (2002)، و«جمر عتيق» (2007)، و«سرير الموج» (2009). هذا النسق الظاهر وغير المضمر هو الحبُّ، الحبُّ الإلهي، وحبُّ الآخر، وحبُّ الوطن، والعشق الذي يُشرق كما شمس السماء.

«أراني أعصر عمراً» عنوان المجموعة التي نجتمع للاحتفاء بها، عبارة تحيل إلى عبارة معروفة يخاطب بها سجينٌ النبيَّ يوسف، كما جاء في السورة القراَنية التي تحمل اسم هذا النبي، ويطلب منه أن يؤوِّلها له، فيفعل. تتمثل شعرية هذه العبارة في المجاز الدَّال على ما سوف يكون؛ إذ يبدو له أنه يعصر خمراً، فيما هو يعصر عنباً، أو أيَّ فاكهة تتحول إلى خمر بعد مدَّة من الزمن طويلة. وإذ ينزاح عنوان هذه المجموعة إلى المجاز، يبدو دالَّاً على أنه يعصر، أيضاً، ما سوف يكون، فهو إنما يعصر عمراً، فيما هو يتمثل تجارب العيش، ويمثلها شعراً هو العمر نفسه. وإذ جاء العمر نكرة، فهو ليس عمر شخص معين/ معرفة، وإنما عمر الإنسان. وهذا يفيد إنسانية هذا الشعر، بوصفه عصارة العمر الإنساني. وإذ ينزاح عنوان هذه المجموعة إلى التأويل المستفاد من الإحالة إلى ما جاء، في القرآن الكريم، يبدو أنَّ الخمرة التي يتضمَّنها هي الحبُّ الذي يؤتي شرابُه نشوة الوصول إلى مقام الفناء في الحبيب، فنحن نعرف أنَّ الخمرة، في لغة شعراء العرفان، هي شراب الحبِّ الإلهي، الذي يعصره العارف في سعيه إلى مقام الوصول، ويشربه كأساً، بعد كأس، فما ينفد الشراب/ الحب، ولا يرتوي شاربه، وينشد هذا، وهو في حال النشوة، شعر الفناء، في ذات الله، سبحانه وتعالى:
- «شربنا على ذكر الحبيب مدامة/ سكرنا بها قبل أن يُخلق الكرمُ».
في مجموعة «أراني أعصر عمراً»، دوالٌّ على ما يذهب إليه هذا التأويل. نلتقط، من هذه الدوالِّ، إشارات ناطقة بالدلالة، منها، على سبيل المثال:
يقول الشاعر إنه لا يعصر خمراً، وإنما يعصر عمراً، يعصر عمراً من الحبِّ، ويخاطب الله، عزَّ وجلَّ، وهو يقطِّر عصيره/ شرابه، فيقول:
- «أولست أمثِّل صورتك الأنقى، في هذا الكون وتقول لي: افتح كفَّيك لأزرع، في اليمنى، حبَّ الآخرة المجهولة، أمّا، في اليسرى، فسأزرع أوطاناً بالبسمة مأهولة؟».
ما يوحِّد الثنائية: الآخرة المجهولة في اليمنى/ الأوطان في اليسرى هو الحبُّ المفضي إلى أن تكون الأوطان بالبسمة مأهولة.
الشاعر، في هذه الحال، من فتح يمناه ويسراه/ كفَّيه، للزرع الإلهي، يحتاج إلى أن يحتسي شراب الحبِّ الإلهي، عصير خمرته، كأساً، بعد كأسٍ، وفي مسار ملامستها شفتيه، يطلق آهاً تلو آهٍ، ويفتح باب الرؤية. وإذ يفعل ذلك، يقصص رؤياه، ليس على أبيه، كما فعل النبي يوسف، وإنما على متلقِّيه، فيرى من شرفة الحبِّ إلى دنياه، رؤية ورؤيا تغدوان شمسين كاشفتين هما ثمرة الزرع والحبِّ الإلهيَّين. هذا ما يقوله بوضوح:
- بعض الحبر لديَّ شموس، حبر تمليه الروح التي تغدو مرآة ذات، صقلها شراب الحبِّ، فصارت تتمثل تجارب العيش، وتمثلها إبداعاً شعرياً مضيئاً كاشفاً، هو الشعر/ العمر الذي سبق أن أشرنا إليه. وهو، بهذا الصنيع، يوقظ الجمال، ويقطِّر الحسن من النبيذ/ الخمرة على شفاه الليالي، ويصير نبيَّاً ترتمي التيجان تحت نعليه، وهذا هو شأن جبران خليل جبران، كما يقول عباس، في قصيدته المهداة إلى «عظيم لبنان» التي تحمل عنوان «صرخة الأرض».
نلتقط، في سبيل اكتمال الرؤية، إشارات دالَّة، من قصائد مجموعات أخرى للشاعر. نقرأ، على سبيل المثال، أنَّ قصائد مجموعته «تجاعيد المسافة» تصدر عن عالم تختبئ فيه أهرام المخالب في شرايين المحبة. وهذا يثير سؤالاً هو: من أجدر من الشاعر، المحتسي شراب الحب، بتنقية الشرايين، والوصول إلى الينابيع العميقة في الذات الإنسانية وعالمها وجراحها؟
يمتلك هذا الشاعر الواصل إلى تلك الينابيع عيناً رائية هي العين الثالثة، والعين هذه ليست حاسة بصر نافذة إلى جواهر قضايا العالم وأشيائه فحسب، وإنما هي بصيرة وحواسُّ تتراسل، وتراسلها سحريٌّ، يؤتي الشاعر، وهو يعصر العمر، الكشف، ويملأ به «سلال الوقت». هذه صورة مبتكرة؛ حيث يضيف الشاعر في هذا التعبير، المحسوس إلى المفهوم العقلي، فيؤتى الكشف، المتشكل من شوك الأحلام وشوق الأملاح. تتمثل الشعرية، هنا، ليس في المحسِّن البديعي والتشكيل الثنائي الدالّ فحسب، وإنما أيضاً في الدلالة، فـ «سلال الوقت» هذه عصيَّة على تسرُّب الزمن من شقوقها، وهذا يقتضي ملاعبة ملاعب ماكر ماهر هو الوقت/ الزمن ملاعبة المغالب له، فيكون الإبداع الشعري عصير خمرة، عصياً على سلطان شقوق سلال الوقت/ الزمن مهما وسعت، فتمتلئ السلال بجنى القطاف، وهو قطافٌ يقدمه منشد «أراني أعصر عمراً» شراب روحٍ، شراب حبٍّ طافح الكؤوس، لمتلقِّيه، فيطفح الفرح، ويعلو النشيد:
- هي خمرة ،
وان خطرت على خاطر امرئٍ ،
أقامت به الأفراح ، وارتحل الهمُّ ...
هي أفراح الإبداع العصيِّ على قهر سلطان العالم/ الزمن، هي أفراحٌ، ثمرة شراب الحب، فليهنأ الشاعر المبدع، وليهنأ متلقوه به.
وليكن سعينا، في هذا الفضاء، في حياتنا وأدبنا، إلى صنع مثل هذه الأفراح، فنُسهم في قيامة الوطن الجميل الحبيب من جحيمه الرهيب...