مدينة ومقبرتانفي أغنية شهيرة له بعنوان: «رجاء ادفنوني على شاطئ سيت»، يقول براسّان في أحد المقاطع ملمِّحاً إلى قصيدة الشاعر فاليري «المقبرة البحرية»: «مع خالص احترامي لبول فاليري/ أنا المغني الجوّال الوضيع مزايداً عليه/ سيسامحني المعلم الطيب/ وعلى الأقل، إن كانت أبياته أكثر قيمة مما أكتبه/ لتكن مقبرتي أكثر بحريّةً من مقبرته/ حتى ولو لم يرُق هذا للسكان الأصليين...»
تلمّح الأغنية إلى وجود مقبرتين في سيت، إحداهما عالية على سفح الجبل، تدعى «مقبرة لو بّي»، وتسمى أيضاً «مقبرة الفقراء»، والأخرى منبسطة وقريبة من الشاطئ: «مقبرة سان شارل» التي ذاع صيتها في قصيدة فاليري الشهيرة. يطلب براسّان أن يكون شجرة صنوبر وارفة تحمي أصدقاءه من حرّ الشموس حين يأتون لزيارة قبره في المقبرة الأولى، بينما تنام الأخرى على مجدها على بُعد خطوات قليلة من البحر والمراكب. للمقبرة البحرية القريبة من مركز المدينة ومن المتحف البحري تاريخ خاص، تأسست عام 1680، من أجل دفن العمّال بعد رفعهم من تحت أنقاض عمليات بناء كاسر الأمواج «سان لوي»، الممر الحجري الذي يحصر بينه وبين المدينة بعض القوارب الراسية، بينما أعمدتها تهتز ليل نهار، وفي «مهرجان سيت للشعر» تتحول مرات عدّة لمسرح يقف عليه الشعراء والفنانون لتقديم نصوصهم وموسيقاهم، حيث تتوزع القراءات على ما يقرب من 39 مكاناً لقراءة الشعر في أنحاء المدينة.

أصوات حية: إحياء للشعر عبر المتوسط
أواخر شهر تموز (يوليو) الماضي، اختتمت فعاليات المهرجان الشعري «أصوات حية من المتوسط»، الذي يُعنى منذ انطلاقته باستقبال مجموعة من الشعراء من بلدان متوسطية، في توأمة مع ثلاثة مهرجانات أخرى: جنوا في إيطاليا، توليدو في إسبانيا، وأخيراً منذ أربع سنوات فقط وبنسخته العربية المتوسطية، مهرجان رام الله في فلسطين.
يعتبر «مهرجان سيت» من أكبر مهرجانات الشعر في فرنسا وأوروبا، بسبب مدته الزمنية إضافة إلى عدد الشعراء المشاركين وانفتاحه على آفاق ولغات جديدة وامتزاج الشعر فيه بالموسيقى والرقص وفنون الأداء المختلفة. ضمن الفعاليات المتنوعة والجديدة التي يجري إحياؤها كل عام: ورشات الترجمة وسوق الكتاب وسط ساحة المدينة، وندوات حكائيّة للأطفال، ناهيك بمقابلات مع الشعراء ضمن تيمات مختلفة. وبالرغم من طغيان تيمة المتوسط على طبيعة المشاركات هوية الشعراء، إلا أنها لا تحدّ مع ذلك من انفتاح المهرجان على مختلف المؤثرات الثقافية الكونية، بل ربما تمنح الجغرافيا صيغة شعرية جديدة ومميزة.
تساعد جغرافيّة سيت المميزة وتداخل البحر بالجبل فيها على تقديم فرصة لا تفوّت للقائمين على المهرجان لاختيار أمكنة للنشاطات المختلفة تتنوع بين إطلالات بحرية، وساحات عامة، ومقاهٍ، وحدائق عامة، وحتى الفناءات الخلفية لحدائق المنازل، في رؤية تشاركية للشعر الذي يمكن أن يتغلغل في الطبيعة والمدينة والبشر على حد سواء.

حصة عربية وازنة
من العلامات الفارقة في «مهرجان سيت» نشر أنطولوجيا سنوية عن الدار الفرنسية «برونو دوسّي» فيها قصيدة لكل شاعر مشارك، إضافة إلى عدد من الكتب الشعرية باسم المهرجان عن دار« المنار» الفرنسية. ومن بين الكتب الصادرة في عام 2022 باللغتين العربية والفرنسية مجموعة قصائد للشاعرة السوريّة ميسون شقير المقيمة في إسبانيا، تولّى ترجمتها المترجم والناقد الفني اللبناني أنطوان جوكي، ضمن كتاب بعنوان «عن الحرب والمنفى». تقليد تخص به دار المنار كوكبة من شعراء العالم العربي ممن قد يتعذّر حضورهم إلى المهرجان لسبب أو لآخر، وهو ما حدث السنة الماضية مع الشاعرة الفلسطينية نداء يونس التي لم تتمكن من القدوم شخصياً، ليحضر عنها كتابها «لا أعرف الشعر» ترجمة الكاتب والدراماتوج محمد قاسمي الحساني وبتقدمة من أدونيس. للمشاركات العربية حصّة مهمة وبارزة في «مهرجان أصوات حية»، إذ أسهمت في إيصال أصوات شعراء كثر إلى الجمهور الفرنسي خاصّة، كما أنها عرّفت الناشرين الفرنسيين المهتمين بالتجارب الجديدة للترجمة، ناهيك بتعزيز أواصر التعارف بين الشعراء كافة. يُذكر أنه في سنوات سابقة، تمت دعوة عدد من الشعراء العرب من دول غير محاذية للمتوسط، مثل كاظم خنجر ومازن المعموري من العراق، وقاسم حداد من البحرين، عبد الله ثابت من السعودية، ونجود الغانم من الإمارات.

قصيدة وإشارة وفنون أداء

من الفعاليات اللافتة هذا العام هو تقديم القصائد، فرنسية أو مترجمة، بلغة الإشارة. مبادرة أثرت نقاشاً ثقافياً فعلياً حول فعالية نقل القصيدة العادية إلى لغة الإشارة، وفي ما إذا كانت لغة الإشارة ستحافظ على ما يريد الشاعر قوله، وتداخل مستويات التأويل والتعبير بين اللغتين. كما جرت المقارنة بين لغة الإشارة هذه التي تكاد تشبه بتقنيتها الظاهرة الفنونَ الأدائية، والإضاءة تاريخياً على تقديم الشعر عبر أداء جسدي وحركي، ابتداءً بفنون ضاربة في التاريخ مثل الرقص والمسرح، وصولاً إلى فن الأداء الشعري الذي يعتبره رواده متميزاً عن كل طريقة تعبير شعرية تم إيصال الشعر بها سابقاً، حيث يعده «المؤدون» شعراً بذاته، ومختلفاً عن المسرح اختلافاً جذرياً.
شعر الأداء هو طبق دائم الحضور على مائدة المهرجان السنوية، فضمن الشعراء المؤدين «بيرفورمانتس» ضمن نسخ المهرجان المتتالية برزت أسماء أنطوان سيمون، وجوليان بلين، وجان بيار بوبيو وغيرهم. يقول سيرج بي، الحائز «جائزة أبّولونير للشعر» والمشهور بتقديمه شعر الأداء منذ عقود، بأن هذا الأخير «يتعلّق باستخدام الشاعر جسده بدل الكلمات».

الإبداع مقابل السلعة
تم تخفيض الميزانية المخصصة للمهرجان منذ سنوات، حيث اعتدنا في سنوات سابقة على دعوة شاعرين أو أكثر من كل بلد، من خارج فرنسا. وبهذا يكون التساؤل حول ما إذا كان هذا المهرجان يواجه الصعوبات ذاتها التي تواجهها العملية الإبداعية في وجه الآلية التي تسعى إلى تسليع كل ما يمكن تسليعه، إذ يبرر رئيس البلدية خفض الميزانية بكون الشعر «إبداعاً موجّهاً إلى نخبة قليلة من الناس».
اللجنة المنظّمة للمهرجان والمدافعون عنه في الصحافة والإعلام يدحضون أطروحة رئيس بلدية سيت عن «أقلية التلقّي»، فهذا الاحتفاء السنوي بالشعر يقدم بنظرهم الفرصة لنشر الشعر كظاهرة جمالية عامة، يقرّبه من الجمهور ويخرجه من طابعه الأكاديمي والمنغلق على تجارب نخبوية أو مدارس منغلقة في أكاديميتها وضيق نطاقها. كما يمثّل المهرجان فرصة للقاء الشعر مع الكثير من عوامل تشكّله والتفاعل معه: البحر والطبيعة والجمهور. يضيف المدافعون أنّ الإبقاء على هذا النوع من التظاهرات حيّاً هو نوع من المقاومة لكل ما يمكن أن يُروّج له من تسطيح ثقافي أو تهميش للتعبيرات الفنية.

انطباعات شخصية وعامة أخيرة
حين تمر بجانب ساحة المهرجان أثناء انعقاده ستلتفت للشعر رغماً عنك، قد تحب وقد لا تحب. لكنك ستلتفت، ستقول ما أحببت وما كرهت، أو لن تقول شيئاً، ستُفاجأ أن حوالي ثلاثين داراً فرنسية مخصصة فقط لنشر كتب الشعر. حين ينتهي المهرجان، ستفرغ الساحة من أصوات اللقاء وصخب الشعراء، ستبقى أصداء موزعة هنا وهناك، ستختفي لافتات دور النشر والخيم المقامة آنيّاً لاحتواء الكتب، ستعود الخطى لتزرع الأرصفة كما سابقاً، باحثاً عن إيقاع موجة شعرية قادمة من داخل المتوسط، أو من ورائه، من كل ما يخبئه من موت وحياة... هذا الفراغ الجديد من نوعه، ما هو إلا تحدٍّ وخلق، ومحاولة لتفريغ معنى «النخبة القليلة» من معناه. حين «تمتد الأرواح نحو الأفق»، كما يقول براسان في أغنيته، يعود الكتاب كما الجسد إلى المكان الذي يودّه. فكما للجسد وصية بالضمور أو الفناء تحت تربة ما، يحتاج الكتاب إلى محطات، وحبذا لو كانت إحداها بحرية زرقاء. ربما لن يسر البرجوازية المعولمة والاستهلاكية اليوم أن يكون شاعرٌ من عامة الشعب علامة من علاماتها الثقافية بعد موته، لكن الكلمة، مقروءة، أو مكتوبة، أو حتى مرميّة على هامش مجلة أو لافتة كما تلك المرفوعة في سيت تحمل شذرات من قصائد الشعراء، ستسهم حتماً في غرس هذا النوع من العدالة، داخل قصيدة عن مقبرة بحرية، عن حياة نرغب بعيشها، أو وصيّة شعرية تصير في ما بعد أغنية.

* شاعرة سورية (فرنسا)