لا أزال أرى كوين، كلما وجدت ظافر الخطيب أمامي. كوين بطل قصة «مدينة الزجاج». كاتب يكتب قصصاً بوليسية باسمه في مدينة لا تنام. مدينة نيويورك. ثم يتخلى عن اسمه لصالح اسم مستعار، ثم يتخلى عن اسميه حين يسأله أحدهم بالمصادفة عن بول أوستر. الأخير مؤلف «مدينة الزجاج» في ثلاثية نيويورك. تهرب أفكار أحدهم نحوه، بحيث يطلب منه حمايته من والده. إذ زربه ذات يوم في غرفة معزولة، لم تكتشف إلا حين اندلع حريق في منزل الولد. سجن الوالد، وها هو الولد يخسر الهدأة بعد اقتراب موعد الإفراج عن والده. سوف يعلقه الأخير بالشجر إذا رآه. هكذا، يطلب حماية أوستر، لكي لا يفقد أنفاسه، روحه. وحين يفعل، يفقد جسده.دحرجة الكلام توصل إلى ضياع كوين بين الأسماء. اسمه والاسم المستعار واسم الراوي واسم بطل رواياته، حيث يسيطر الأخير على نوافذه وأبوابه ولحظاته. سوف يضحي بلا أصدقاء، سوف يضحي بلا نفسه، بعدما فقد جريان الوعي فيه وهو يراقب الولد المهدد والوالد المهدِّد، بحيث لا يعود يعرف كيف مر من هنا، وماذا جرى، وهل تضوع في أمكنة قصدها أو أطل من نوافذها، أو ترك روائح كريهة لن تذهب مع الصباح ولا في المساء. وحين يعود إلى منزله لا يجد دمه فيه، إذ يجد فتاة معلقة كزهرة في فضائه. خسر الرجل نفسه. لم يدرك الأمر تماماً إلا حين وجد نفسه بلا منزل.


الثلج لا يدوم، هذه واحدة من عِبر الرواية. لكن المنازل تدوم مع مستأجرين آخرين في حالة كوين، أو مع محتلين في حالة ظافر الخطيب. ذلك أن الرجل بقي وحيداً، بعيداً من منزل مملوك في فلسطين. الالتفات إلى الوراء يصنع الحنين. يحنّ أبو نضال، بدون النظر إلى الوراء. وإذا ادعى عدم الحنين، تفضحه الأشجار وتَجَمُّد الزمن، روح الأمكنة. لا يعيش في الماضي. هذا واقع. ولكنه لا ينكره، ذلك أن الماضي علّمه الدمع، وهو لا يريد أن يبكي بعد. هكذا، وجد الكتابة. وجدها، على غير ما وجدها بول أوستر. إذ إن الأخير وجدها لكي يتوصل إلى حقيقة الكتابة. حين وجدها ظافر الخطيب لكي يرمم ذراعه، عكف على تأليف الكتب بمعدلات بعيدة، غريبة، بالرغم من أنه يمتلك من المعرفة ما يكفيه لكتابة مؤلف كل شهر. لكنه حرّ في القيام بما يشاء في خلال أعوامه، لا يريد أن يفقد حريته. لذا، يتوقف عند الكثير في المؤلفات القليلة.
في «الغربة الفلسطينية» (دار نلسن ـ 2023)، بحث في جماليات الوطن المفقود، ولو لم يجر الكلام مباشرة عن الجماليات هذه. الكلام كلام على التأمل وارتياد عروض الأشقاء الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية. من المستحيل أن يحيا في مكان بناه حول نفسه. وهو يملك أكثر من مكان. في «الغربة الفلسطينية»، أفضل جولاته في قراءة أصل الوجود من خلال المحاورة الفكرية. وهذه تضطر المؤلف إلى بذل جهود تذكر. لكنه في قرارة النفس، لا يهاجم أحداً بالاسم ولا يدافع أو يرافع عن نفسه. إنه يمضي إلى حد الاعتقاد بأن الفلسطينيين في لبنان رجل واحد، عليه أن يجد مخارجه من حياته المستقلة، لكي يكرّس نفسه لحركة الشوارع في هذا المدى المفلوج بالخسارات والخيانات والاستسلام. كلام ينتمي إلى الجوهر في «الغربة الفلسطينية». إجادة معرفة، لا ينازل فيها قدر ما يريد أن يمطر مشرفاً أرضاً يمطر عليها. لن يتركه الكلام بشعور أنه ضل الطريق، لأن من يضل لا يهدي الآخرين إلى التجول في مجالات يستحيل اختراقها، لأنها تقوم على الشرف وعلى الالتزام بالكلام، أوّله، أنّ الطريق لا يبان قبل بداية الرحلة، وأن الطريق طويل، لا علاقة له بالاتصال، قدر ما له علاقة بالحرب. تربح حين تحارب وتخسر حين تحارب، في الحالين الحرب جزء لا يتوجب التخلّي عنه لصالح اتفاقات تموت، ثم تموت، ثم تموت، من عدم شعور القادة بالمسؤولية. تفكير على وجه الدقة في الغربة، وهي الانقطاع القسري. الغربة غير الاغتراب، تجيء من حالات الحرب وعدم الاستقرار الأمني والسياسي. عدم الاستقرار حرب تتشابك مع جرائم الاحتلال. والغربة هي النوى والبعد، الحدة، بياض صرف. غرب: اندثر، تلاشى، اختفى غربت العين، سال دمعها، ورمت مآقيها. غرّبه، أبعدَه، نحاه. وهذا ما حدث مع الفلسطينيين المنقسمين بين الكيفية والكيفية. يرد الخطيب على هذا الانقسام، بلا سكرتيرة ولا وكيل. يتدبر أمور الآخرين، لأنّ الأدرى بأن التدبر هذا تدبّر النفس للنفس، ما دام الراوي راوي الجمع أو الجماعة. وهو يروي باتسام خارج على المفهوم العام، بطبع لا يصعب فهمه.
لا يفته شيء، خصوصاً القروب بين الأيديولوجيا والفكر. «الغربة الفلسطينية» كتاب فكر لأنّ الأيديولوجيا تعيد إنتاج الفكر السائد. الأيديولوجيا تقيّد، الفكر يحرّر. لا كلام مجرّداً هنا. كما لا كلام مجرداً في الكتاب. كتاب ذاكرة الكتابة. كتاب الشجاعة والأمل. كتاب ضد الغربة الروحية لأنها الأخطر، ما دامت الغربة الجسدية لم تعد تضيق ذرعاً بنفسها كما في سنوات التهجير الأولى. إنه هنا في غمار خوضه في المعنى الظاهري للاغتراب والمعنى الداخلي.
«الغربة الفلسطينية» كتاب فكر لأنّ الأيديولوجيا تعيد إنتاج الفكر السائد


رحلة سريعة خاطفة إلى الوطن الأم، في صفحات محددة مؤلفة في مخيم وفي منزل قريب من المخيم. يقول إنّ الفلسطيني غير سعيد، ومصابيحه مطفأة، ولم يعد يتذكر حتى أحلامه القديمة بعدما غدا شخصاً يتكلم من بطنه لا من فمه، كما تفعل الدمى. الفلسطيني هنا هو القائد، مَن يبرر الهزيمة لا من يصنع النصر أو يمهّد له. كلام يتخطى الفصائل وهو يسائل في كيفية تدبر الأمور، ويجيب ويقترح بجهود بذل لا تستنفد قواه. قوى العزلة قوى مضروبة بألف. هذا ما تفهّمه الخطيب، وهذا ما مضى فيه ولا يزال بدون أن يتطلع إلى الأقدام. اكتشف أشياء تتعلق بالقضية. اكتشف أن القضية كل الأشياء. إذن، لا يزال ثمة قضية. هذا سلوك بطولي، لا يجزم فيه سوى من لا تهمه المهنة ولا يهمه المال، سوى من تهمه الحركة ولا يهمه المنصب، سوى حاسر الرأس، حافي القدمين، عاري الجسد إلا من لباس تقواه، سوى من لا تهمّه الوجاهة، بل الجلاء. إنه مدافع لا شفيع، لا يلتحف الأنصار ولا الأصهار. الغربة بينه وبين المال، غربة بينه وبين الارتهان لأنه يمتلك وشائج حية لا تخشى أن تقطع مع النسب. في «الغربة الفلسطينية»، يتخطى ظافر الخطيب الكلام العادي والفكر العادي. يقدم المساعدة بكل الأشكال. يعيد السماع إلى موضعه، الكتابة بعيداً من أرقامها الخاطئة. الوقت يمضي سريعاً وهو على طريق النفاد. لم يخش أبو نضال ذلك، لن يخشى التحري بالابتعاد عن الإتراع بالانفعال. لن يساير أحداً في ما يتعلق بفلسطين لأنّه إذا رأى لا يفر، وإذا أحسن لا يطلب.