في أمسية شعريّة أقيمت في بيروت، بدعوة من وزارة الثقافة اللبنانية، قدّم الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي (1977) قصيدته «جلجامش» على خشبة «مسرح المدينة» في منطقة الحمرا. على مدى ثلاث ساعات ونصف الساعة، أنشد البرغوثي، مخاطباً جمهوراً كأنّه مايسترو يقود فرقة أوركسترا.تحدث البرغوثي شارحاً عن الملحمة البابليّة التي تعد ثاني أقدم نصّ ديني في التاريخ البشري، موضحاً أنّه أبقى على الأحداث كما هي، فمن يعرف الملحمة الشهيرة، سيكون قادراً على تقصّي أحداثها من القصيدة، ومن لا يعرفها، فقد كان للسرد الشعريّ القدرة على تعريفه بها. أهدى تميم القصيدة إلى والده الشاعر والكاتب الراحل مريد البرغوثي. وهنا راودني السؤال: من منهما هو جلجامش؟ ثمّ حين انبرى تميم بإلقاء قصيدته، وسمعت الجمهور يتأوّه كأنه نغمة واحدة ويصفّق كأنه يد واحدة ويصيح طرباً أو دهشة كأنه صدى لإنسان واحد، تساءلت عن أمرين: هل الفروقات بين البشر كبيرة فعلاً؟ هل تحتاج تلك الفروقات إلى معلمين للحياة أو مدربين باتوا يملؤون صفحات الإنترنت؟ أمّا سؤالي لنفسي فكان: كم عظيم هو الفنّ؟
كان تميم جامحاً، دارياً، عارفاً ومريداً، كان كأنّه كشفت له أسرار الكون وجاء ليفتح صندوقها على مرأى من الحاضرين، لم يدّع نبوّة ولا حكمة، لكننا خرجنا منتشين بالحياة، شعور بالخدر اللذيذ في أفكارنا وفي الروح متّسع للركض خلف الغيب من دون خوف ولا تردد. فهل لأنّ جلجامش الذي اختبر عتمته ونوره، وهو إله وإنسان في الوقت عينه يشبهنا؟ إلى أيّ درجة كلّ منّا هو جلجامش؟


«حسب الأسطورة، كان جلجامش ملكاً على المدينة السومريّة الوركاء. كان عظيماً جميلاً، لا يشبهه أحد، لكنه كان ظالماً، فرأت الآلهة أن تخلق له ندّاً، فكان أنكيدو، يشبهه لناحية القوة ولكنه طيب. عاش أنكيدو في الغابة، ثمّ رآه الصيادون، فأخبروا عنه جلجامش، فأمر بحيلة لإحضاره، وهكذا كان. وحين حضر إلى المدينة انبهر ناسها بقوته، فطلبوا منه حمايتهم من بطش جلجامش. نشب صراع بينهما انتصر فيه جلجامش، ثمّ غدا الاثنان صديقين. يرفع جلجامش ظلمه، يقتل هو وأنكيدو حارس الغابة، ثمّ تعجب به عشتار وتحبه ولكنه يرفضها، فترسل لقتله ثور السماء، فيقتله الصديقان، فتثور الآلهة وتغضب وتقرر معاقبتهما، فتقتل أنكيدو بالحمى، فيحزن جلجامش ويرفض دفنه ظاناً أنه قد يعود من الموت. لكن حين سقطت دودة من أنفه، استسلم وبدأ رحلة البحث عن الحكيم «أوتونابشتيم»، وهو المخلوق الوحيد الذي أنعمت عليه الآلهة بالخلود، وأسكنته - مع زوجته - في جزيرة نائية، تفصلها عن العالم مخاطر رهيبة، وبحر تسبّب مياهه الموت لمن يمسها. وبعد مغامرات عديدة، ينجح جلجامش في الوصول إلى حكيم عن طريق أحد تابعيه وهو الملاح «أورشنابي»، وهو الوحيد الذي يستطيع عبور مياه الموت بقاربه. ويقصّ جلجامش ما حدث للحكيم، ويطلب منه أن يمنحه سر خلوده في الحياة، فيكشف له أنّ الآلهة قررت إرسال طوفان لإفناء أشكال الحياة على الأرض، لكن الإله «أيا» نزل إلى الأرض، وأخبر الحكيم بالأمر، وطلب منه أن يبني سفينة هائلة «عرضها مثل طولها»، ويحمل فيها أهله، ومجموعة من أصحاب الحرف، وأزواجاً من الحيوانات والطيور ووحوش البرية. وبالفعل تمكن الحكيم «أوتونابشتيم» من إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، فشعرت الآلهة بالندم على قرارها بعدما رأت ما فعله، وقررت منحه وزوجته الخلود. يفاجئ الحكيم جلجامش بأنه لا يمكنه منحه الخلود، ويجري له اختباراً لإثبات ذلك، فيطلب منه قهر النوم - الموت الأصغر - لمدة ستة أيام وسبع ليال، لكنه لا يتمكن من ذلك فيغرق في سبات عميق طوال ستة أيام، ويُصاب باليأس بعد فشله في الاختبار. وبينما يستعد لمغادرة الجزيرة، إذا بالحكيم يخبره عن وجود نبات مثل الشوك ينبت في المياه العميقة، ويجدد الشباب لمن أصيب بالشيخوخة، لكنه لا يمنع الموت، فيخوض جلجامش المغامرة، ويربط نفسه بحجر، ويغوص في المياه العميقة، فيجتز النبتة، ويعود ليشكر الحكيم، ويقرر العودة إلى الوركاء لإطعام كل شيوخها من النبتة، فيعود لهم شبابهم، ويترك لنفسه ما يأكله عندما يصل إلى مرحلة الشيخوخة. ولكن في طريق العودة، يتوقف جلجامش عند بحيرة باردة الماء، وبينما يغتسل من مائها، تتسلل حية وتأكل النبتة، فينهار ويبكي بعد أن ضاعت آماله، فيعود إلى الوركاء مع الملاح «أورشنابي»، وتنتهي الملحمة بوقوفهما أمام أسوار المدينة ووصف جلجامش لها» (1).
خرجت وقد عرفت لماذا قد يهدي شاعر فلسطيني معاصر أباه ملحمة


هل اختصرتُ بسردي قصة جلجامش كما جاءت في بعض المراجع، الإجابة عن سؤالي؟ يبدو أنّ الإجابة أكثر سعة وحريّة من مجرد إقامة مقارنة أو وجود تشابه بين قصة جلجامش وقصة آدم، وبينها وبين إنسان اليوم. ولو سلمنا بذلك، فسنواجه سيلاً من الأسئلة: ما الذي يشكك فيه تميم؟ إذا كان جلجامش هو آدم، فمن هو انكيدو؟ وإذا كنا لا نزال في صراع مع الموت وسنبقى، فهل نحن جلجامش؟ لقد خرج آدم/ جلجامش، إذ اشتعل فيه الخوف من الموت، «هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟» (2). والخوف شعور يبدأ مع الأفكار، مع الحاجة إلى حماية الوجود الماديّ المحسوس، مع الحس بالانفصال عن الذات العليا/ أو فلنسمها الروح، مع نسيان الأصل فينا وهو أننا روح في هيئة جسد، والروح لا تموت، إنما تتخذ هيئة لا يمكن أن تراها العين وتعود إلى مصدرها/ الله، فهل خروج آدم من الجنة كان سببه انفصاله عن الجوهر بالفكر، وهنا أسأل من هو آدم؟ وهل إن كنا نشبهه ويبدو أننا لا نزال في رحلة بحث عن خلودنا المزعوم كهيئة بشرية، صراعنا مع الموت الذي هو في الأصل صورة مختلفة لوجود الروح، أم مع الحياة؟
لقد ذهبت إلى أمسية البرغوثي مريدة للشعر، فرجعت وقد امتلأت بأسباب الكتابة، وربما فهمت لماذا يصرّ الفلسطينيّ الشاعر أن يبحث عميقاً في الماضي الإنسانيّ، أن ينكش التاريخ وينشئ مقارنات متوارية، أن يسأل عن الله ويتهكم من علاقة «العبيد» بالسلطة، أن يتحرر من العفة ويتبرّأ من شرف عدم الوقوع في فتنة الغواية واشتهاء الخطيئة، أن يحرر اللغة من التباس معنى غير متداول، أن يسعى إلى خلود لغويّ، أن يعكس الأدوار بخفة كساحر شاطر، فهناك آدم وجلجامش ونحن، وفكر وخوف وليس هناك شيطان، خرجت وقد عرفت لماذا قد يهدي شاعر فلسطيني معاصر أباه ملحمة.

1- ويكيبيديا ـ 1/6/2023
2- سورة طه ـ الآية 120

* روائية فلسطينية