حبيب الشيخ عبد الحسين صادق (1931 ــــــ 2023) مثّل ظاهرة فريدة في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية اللبنانية والعربية، يمكن أن نضع عنواناً لها هو «ظاهرة الممتلك قاموساً وطنيَّاً حقيقياً ينطق به في فضاء جمالي يجيد صناعته، في كل ما يقول ويفعل». ينتمي حبيب صادق إلى أسرة علمية دينية شعرية، تعود في أصولها إلى الشيخ إبراهيم يحيى (1741/ 1800)، شاعر نهضة جبل عامل، في زمن شيخ مشايخه، ناصيف النصار، وشاعر نكبته ومقاومته إبَّان اجتياح والي عكا، أحمد باشا الجزار له. يقول حبيب صادق في هذا الشأن: «ولدت في عائلة ذات وجاهة دينية واجتماعية، وذات منزلة أدبية مرموقة، تتفاخر بنقاء انتسابها العربي إلى قبيلة مخزوم» القرشيَّة.
يحمل لقب «عزيزي»، المستقى من خطابه للآخر بـ «يا عزيزي»، المسبوق بابتسامة مشرقة، واحتفاء... كما يحمل لقب «الحبيب الصادق»، المُحبِّ والمُحَبّ، والصادق في كلِّ ما يقول ويفعل، والرائي بعين البصيرة الثاقبة، والمقيم مع الآخر علاقة إنسانية، قوامها اللطف والدماثة والوضوح والأمانة، والصلابة في التمسك بالثوابت الوطنية والقومية والإنسانية، ما يشكل فضاء علاقات جمالياً، يكون هو صانع شعريته، كما يفعل في كلِّ مجالات نشاطاته الكثيرة.
يبدو لي أنَّ حبيب صادق، في المقام الأوَّل، شاعر وجداني وأديب ومفكِّر. من مؤلفاته في هذا المجال، نذكر: «فصول لم تتم» (1969)، «زمن القهر والغضب» (1973)، «جنوباً ترحل الكلمات» (1980)، «شهادات على حاشية الجنوب» (1981)، «مطالع النور» (1982)، «كلمات للوطن والحرية» (1986)، «قضايا ومواقف» (1990)، «وجوه مضيئة» (1998)، «حوار الأيام» (2004)، «صراع المصالح والإرادات» (2005)، «في وادي الوطن» (2010). وله الكثير من المؤلَّفات بالاشتراك مع آخرين، ومن الكتب التراثية (إعداد وتحقيق وتقديم). وقد فعل ذلك من منظور يرى أن أحياء التراث العربي – الإسلامي ودراسته، ومنه التراث العاملي، يسهمان في الوصول إلى تكوين ثقافة أصيلة ومعاصرة في آن. وقد وُصف صنيعه، في هذا المجال، وخصوصاً في ما يتعلق بإحياء التراث العاملي ودراسته بـ «صنيع إحياء الأب»؛ إذ إنه أعدَّ وحقَّق ونشر الكثير من المخطوطات العامليّة، أو أسهم في ذلك.
تُفيد قراءة هذا التراث أنَّ صاحبه، من نحوٍ أوَّل، شاعر مجيد ومجدِّد، ليس من فصلٍ بين همومه وبين ما يعانيه مجتمعه من هموم. ومن النماذج الدالة على ذلك قصيدته المشهورة «أرض الجنوب» التي غنَّتها أميمة الخليل، ولحَّنها مارسيل خليفة، وقصيدته الأخرى «أنشودة الحجر» التي لحنها وغناها مارسيل خليفة، ومن نحوٍ ثانٍ أديب يكتب القصة والتمثيلية والبرامج الإذاعية، ومن نحو ثالث مفكر باحث منهجي، تتصف أبحاثه بالدقة والوضوح والمنهجية العلمية كما في كتابه «قضايا ومواقف» الذي رأى فيه «أنَّ الحلَّ الوطني الديمقراطي، في لبنان، من شأنه أن يوفِّر الحلّ الصحيح باستئصال العلة من جذورها، أي من بنية النظام السياسي». وقرَّر في شأن القضية الفلسطينية «أنّنا ملزمون بالعودة إلى قاموسنا الوطني، السياسي الحقيقي، غير الضالّ، وغير المزوَّر، الذي أمضينا عمرنا الطويل في التعامل النزيه مع مفرداته ومقولاته المحدَّدة بوضوح ودقَّة؛ ليستقيم لنا، من بعد، أمر الخوض في شأن التطبيع الثقافي مع العدوِّ الإسرائيلي، في علاقته العضوية، مع بقية الشؤون التي تشكِّل الصراع العربي – الصهيوني، وجملة ميادينه الظاهرة والمموَّهة».
وفي الوظيفة، عندما كان رئيس دائرة في وزارة الصحة، فتح باب مكتبه وباب بيته للمواطنين، واختار خدمة الأهل، فلم يعمّر زواجه من الأديبة ديزي الأمير سوى سنوات قليلة (1973– 1975).
قابل الأهل الأوفياء، في جبل عامل، صنيعه الجميل معهم ولهم، بالجميل، فقاموا بحملة جمع ليرة واحدة لدعم ترشيحه للنيابة في مواجهة الإقطاع، في دورتي 1968 و1972 النِّيابيَّتين، ونال في الدورة الثانية، من الأصوات ما أهَّله للنجاح، لكن السلطة حالت دون ذلك. وإذ نجح، في ما بعد، على «لائحة التنمية والتحرير»، فإنه خرج منها، ليبقى عاملاً في السياسة كما في الثقافة رمزاً وطنياً قومياً مستقلاً، بابه يبقى مفتوحاً لكلِّ من يطرقه من الأهل، كما كان دائماً.
وفي صناعة الثقافة، فتح أبواب «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، منذ أن تولى أمانته العامة في عام 1972، للمثقفين الوطنيين الديمقراطيين اللبنانيين والعرب، ولإحياء الثقافة الوطنية القومية الإنسانية، وإطلاق الظواهر الثقافية، ومنها ظاهرة شعراء الجنوب، وقد غدا شعراؤها من كبار شعراء الوطن العربي، في ما بعد، وصار لكلٍّ منهم صوته المتفرد به.
مثقف عضوي في مجتمعه، من حيث تلازم رؤاه المتجسدة في مؤلَّفاته ومواقفه


يثير ما ذكرناه، وعندما نعلم أنه مفكِّرٌ باحث، إشكالية الشاعر/ الباحث المنهجي، وتأخذ هذه الإشكالية بُعداً أشدَّ حدَّة، عندما نعلم أن صاحبها أدّى دور المنشِّط الثقافي على ساحتي الثقافة الوطنية اللبنانية والقومية العربية، وكاد هذا الدور يستحوذ على الكثير من وقته، أدّاه صاحبه بتفانٍ وجداني، جعله قريباً من الأداء الشعري، إن لم يكن نوعاً من السلوك الرسالي، يجعل من القائم به صانع ثقافة وطنية قومية إنسانية ديمقراطية في فضاء جمالي.
في هذا النوع من العمل الرسالي كمن سر نجاح حبيب صادق، في تجاوز كل ما واجهه من إشكالات. ويبدو أن دور الشاعر الوجداني: كتابةً وسلوكاً اجتماعياً وسياسياً وتنشيطاً ثقافياً، ودور المفكر الباحث يلتقيان لأداء مهمة المثقف الذي يعي واقعه، ويسعى إلى فهمه وتغييره. وأيّاً يكن نوع نشاطه، فكل الجهات الوطن، وإليه رحلات الكلمات والفعل، واليقين أن هذا الوطن سيُبعث، كما قال الحبيب الصادق بلسان الشاعر الجنوبي، فؤاد جرداق (1909 /1965): «قل للطغاة: سيُبعث الوطن الذي/ بعثت من الحرف القديم نفوسه/ أَبَني التحرُّر وحِّدوا جبهاتكم/ يوم النضال فقد يثور وطيسه».
حبيب صادق مثقف عضوي في مجتمعه، من حيث تلازم رؤاه المتجسدة في مؤلَّفاته ومواقفه، ظلّ في سعي إلى فهم قضايا الواقع المجتمعي، بغية الإجابة عن أسئلته الملموسة، بصدق من يمتلك القاموس الوطني الحقيقي، وشمولية الرؤية الثورية ووضوحها، وشعرية صانع الجمال في كل ما يقول ويفعل، ما مثّل ظاهرة فريدة في تاريخ أجمل الخالدين.