في لحظة اعتراف ثقافي ذاتيّ قبل بضع سنوات، كنت أحاول معرفة مَنْ أثّر بتكويني شابّاً ومن كان من «أساتذتي» الصرحاء والمخفيّين، وأيّ الكتّاب والشعراء والروائيين كوّن ذائقتي في نهاية المطاف. بعض الأسماء كتبت عنها علناً، عرفاناً بالجميل، وبعضها لم أفعل بغياب المناسبة. اليوم أجد المناسبة: كانت سلمى الخضراء الجيوسي من الأساتذة الذين كونوا جيلاً كنتُ أترعرع في كنفه: فمن ترجمتها قرأت كتاب أرشبيلد ماكليش «الشعر والتجربة»، وقرأت ترجمتها لجزأين من «رباعيّة الإسكندرية» للورنس داريل و«جوستين» و«بالتازار»، وقرأت ترجمتها لـ «إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن» المنشور عام 1960 قبل انقطاعها عن الترجمة إلى العربية. لست من جيل الجيوسي المحفورة في ذاكرتي عبر هذه الترجمات وغيرها، وعبر سجالات عديدة، خاصة السجال الذي دار حول التجديد في الشعر العربي في الصحافة الثقافية العربية في ما بعد، ولم ألتق بها (إلا على الورق) إلا عام 2010 في ندوة أدب الرحلة في الجزائر، لكأني كنت أعرف دماثتها منذ زمن طويل، وإني التقيت بثقافة عميقة مثل ثقافتها منذ حين... لأعترف لها في ذلك العام في الجزائر أنها كانت من الأشخاص الذين ساهموا مداوَرَة، عبر الترجمات التي قرأتها لها، في تكويني الجمالي والثقافي والشعريّ. لم ترفض مثل بعض مجايليها قصيدة النثر، غير أنها رفضت بشدة أن يكون ما توصّل إليه شعراء مجلة «شعر» الحداثيين هو آخر التطورات الممكنة بالنسبة إلى فن الشعر. كنت أقرأ طالباً جامعياً في السبعينيات ما تيسّر لي من مقالاتها المنشورة في الصحافة العربية. وأظنها كانت منخرطة بعمق في جدال الحداثة والتجديد في الشعر العربي من دون موقف متعال أو تبسيطيّ. كانت ناقدة ذات ذائقة مخلوطة بالمعرفة، رغم أن المرء قد لا يتفق دوماً على خياراتها الصارمة بالإنكليزية التي قامت بتحريرها وكتابة مقدمتها بعنوان «موسوعة الشعر العربي الحديث» وهي تحتوي على قصائد لأكثر من تسعين شاعراً عربياً معاصراً. عملها «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» من ترجمة عبد الواحد لؤلؤة هو جهد ناقدة متمرسة وذوّاقة وعارفة بالدقائق. الجيوسي ابنة الثقافة العربية، وفلذة روح بلاد الشام، ونتاج تزاوج خبرات الشرق والغرب، عبر جهدها في الترجمة والتدريس الجامعيّ والبحث المعرفيّ الدؤوب. لم يوقفها الترحال ولا العمر عن شغف المتابعة وروح المغامرة.
* تشكيلي وشاعر ومؤلف عراقي