جاء شباط (فبراير) جالباً معه بعض الموسيقى المحترمة الحيّة إلى لبنان عبر «مهرجان البستان». لا شيء يوحي بأن هذا المهرجان (أو أي مهرجان) ما زال ممكناً بعد. رغم ذلك، هو موجود. لا نعرف كيف ولماذا ولِمَن وإلى متى. لكنه موجود اليوم، وهذا جيّد، ضروري وصحّي، وأيضاً لا نعرف لماذا. كل ما نعرفه أن عدم وجوده ليس مريحاً. بل مرعبٌ. الموسيقى لا يجوز أن تغيب، لا في الأزمات ولا أمام المآسي. الموسيقى هي دليل البقاء على قيد الحياة. هي البقعة النظيفة مهما توسّخ الوجود من حولنا. حتى في الطبيعة، في الأدغال، بدون صوت الحياة بخطر. فهو هنا لتأمين استمرارية النسل حيناً، ولأخذ الحذر حيناً، وللتحذير حيناً، ولطلب الطعام حيناً، وللاستغاثة حيناً، ودائماً للمساهمة في سمفونية معقّدة مستمرة ليل نهار في الجوّ والبحر والبرّ، في تناغم تام بين «الجميع». الإنسان مخلوق خاص. أُعطِيَ القدرة على الصناعة الموسيقية، مراقباً ومقلّداً الطبيعة ومستوحياً منها، مضيفاً إنجازات راكمها عبر آلاف السنين. نحن، اليوم، محظوظون فوق ما يتصوّره عقل بأننا نقطف ونستمتع بثمار هذه الرحلة المثيرة التي بلغَت الذروة أو اقتربت جداً منها في جميع المجالات: من صناعة الآلات والنظريات والتأليف والعزف إلى التسجيل والصوت ووسائط التقاطه وإعادة إنتاجه. بعبارة مختصرة، مشكلاتنا كثيرة. همومنا وهواجسنا كذلك.
تحلّ الأوكرانية فالنتينا ليسيتسا على المهرجان

هناك جوع وبرد وظلم وألم وحزن ويأس، والزلزال كان قريباً جداً منّا، والمستقبل مجهول باحتمالاته الإيجابية وشبه أكيد بتلك السلبية، وبالرغم من السوادَين الحالي والآتي، نريدها تلك الحبيبة بيننا، ودائماً. لحسن حظ محبّي الموسيقى الكلاسيكية الغربية، التي نَزَع عنها التاريخ صفة «غربية»، تماماً كما نَزَعها عن أي موسيقى كلاسيكية أخرى، وألبسها ثوب الخلود الإنساني، أنّها الأكثر صموداً في لبنان اليوم. غريب، صحيح، لكن هذا هو الواقع. بين «بيروت ترنّم» و«موسيقات بعبدات» وأمسيات «معمل الحرير» و«بيت تباريس» ونشاط «نادي الموسيقى الكلاسيكية في الجامعة الأميركية»، وغير ذلك من المواعيد المتفرّقة، يكاد يكون «العرض متواصلاً». كل تلك المساهمات مهمة، ومعظمها جيّد أو أكثر، لكن يبقى «البستان» ملكاً في هذا المجال، من دون الحاجة للعودة إلى مقارنته بباقي الجهات، وما له ولها وما عليه وعليها. هو غير مجّاني، لكن ليس بدون مقابل: المستوى. وهذه السنة، أسعار البطاقات فعلاً موجعة، علماً أن أعلاها ثمناً حالياً (40 دولاراً أميركياً) يوازي أدناها ثمناً قبل الأزمة. هي موجعة لمن لا يملك المال بالمطلق، كما لمن يملكه على شكل أوهام في البنك. نفكّر بالذين يحبون الموسيقى ولا يستطيعون شراء حتى البطاقة الأدنى ثمناً (15 دولاراً). فهذا الشعور المؤذي نعرفه جيداً، ولكن ارتحنا منه، والحمد لله، بحكم المهنة، مع فارق بسيط أنّ موقفاً مماثلاً كان أشد إيلاماً في السابق، حيث يمكن اليوم الاستعاضة النسبية عن أمسية حية مدفوعة، بكثيرٍ منها، مجاناً وبكبسة زر.
في ما يلي، نتناول «البستان» من الباب الفني البحت. النظرة الأولى على برنامج الدورة المرتقبة بدءاً من الليلة تحت عنوان «إيقاعات السلام»، لا توحي أننا في عام 2023. بذهول قرأنا البرنامج. ربما هو وهم التوقعات المنخفضة الذي يجعلنا نرى قيمة استثنائية في هذه المجموعة من المواعيد. لكن رغم ذلك، وبعيداً عن تأثيرات الوضع المزري على النفسية والعقل، نحن أمام نسبة عالية من الأمسيات الممتازة من ناحيتَين أساسيّتَين: بعض النجوم الأجانب وبرامج الأمسيات (أي الأعمال وقيمتها الفنية العالية). الناحية الأولى، وجود نجوم يعني مستوى أداء رفيعاً، وهذا مهم ولو كنا قد سمعنا تسجيلات مرجعية للأعمال ذاتها، لأن للعزف الحيّ سحراً لا يلغيه سوى أداء دون المستوى المقبول.
نحن أمام نسبة عالية من الأمسيات الممتازة لجهة النجوم الأجانب وبرامج الأمسيات

الناحية الثانية، أي الأعمال بمعنى التحف، تبقى مثيرة للمتعة رغم التكرار من جهة، ولو أتى أداؤها عادياً من جهة ثانية. بالمناسبة، الثقل في مستوى الأمسيات (لناحية الفنانين كما الأعمال) موضوعٌ بشكل أساسي في الأسبوع الأول، وموَزَّع لاحقاً بشكل مدروس حتى نهاية المهرجان في 19 آذار (مارس) المقبل. وفي جولة سريعة على الأسماء، نذكر الأوكرانية فالنتينا ليسيتسا وزميلها الروسي ألكسندر مالوفييف (بيانو) وناتالي كلاين (تشيلّو) وضيف المهرجان الدائم رونو كابوسون (كمان) وعازف البيانو أنطوني وونسي في أمسية الجاز التي تزيّن الدورة، ورباعي الوتريات الفرنسي الصاعد والواعد «هيرمس»، وأندرياس أوتنزامر وهو ربما أفضل عازف كلارينت في العالم اليوم (لكنه يشارك كقائد أوركسترا، في حين قد يختتم البرنامج في عزف على آلته الأساسية) الذي يأتي برفقة عازف الهورن باولو مندِس (عضو في «برلين الفلهارمونية»)، وعبد الرحمن الباشا (بيانو) وقائد الأوركسترا باولو أولمي وزميلَيه ومواطنَيه جيانا فراتا وبييرو رومانو وغيرهم. أما الأمر المهم وذو الدلالة هذه السنة، فهو دعوة مجموعتَين أوركستراليّتَين أوروبيّتَين. طبعاً، ليستا من أوركسترات الصف الأول ولا الثاني، لكنها تبقى ضمن التصنيف المرموق ووجودها مطلوب نظراً إلى احتضار الأوركسترا الوطنية اللبنانية، وهي لم تعد فلهارمونية إلّا بالاسم، بسبب الإدارة السيئة (منذ التأسيس) التي جعلتها جسماً هشّاً لم يستطع مقاومة الانهيار (ونقصد تحديداً التعويل المفرط على الموسيقيين الأجانب، وعدم إعداد طلاب موسيقى بشكل كافٍ ومدروس في الكونسرفتوار الوطني). نتناول بعض جوانب هذه الدورة بالإضافة إلى الإضاءة على محطاتها الأساسية ومسألة خيار عنوانها لهذا الموسم، في مقالات أخرى في الصفحة. كما سنعود إلى الأمسيات الأساسية بالتفصيل قبلها وأحياناً بعدها إذا لزم الأمر. أما الليلة، عند الثامنة تماماً، فليأخذ الصمت قسطاً من الراحة وليترك الموسيقى تنتشلنا من تحت.

* «مهرجان البستان الدولي للموسيقى»: بدءاً من الليلة حتى 19 آذار (مارس) ــــ albustanfestival.com