أمس، دخل المسيحيون الذين يتبعون التقويم الغربي مرحلة الصوم التي تمهّد لعيد الفصح، رمز الرجاء والأمل بالنسبة إليهم. في هذه الفترة، تتوجّه أنظارهم إلى فلسطين، تلك الأرض التي أنجبت المسيح. «كنيسة المهد» التي كانت شاهدة على تاريخ مليء بالصراعات والتحوّلات والتشابكات، خضعت لعملية ترميم طويلة استمرّت عشر سنوات. «كنيسة المهد في بيت لحم – أقدم كنائس فلسطين – دراسة في العمارة والفنون والتاريخ والتراث» (نظمي الجُعبة ـــــــ مؤسسة الدراسات الفلسطينية) إصدار فريد من نوعه يضيء على هذه الكنيسة التي تتمتع برمزية دينية وحضارية كبيرة، بدءاً من الحجر الأساس، مروراً بوضعها في ظل الاحتلالات التي مرّت على فلسطين، وصولاً إلى يومنا هذا
تُعتبر «كنيسة المهد» في بيت لحم من أقدم كنائس العالم التي ما زالت قائمة على الرغم من قِدم تاريخ بنائها، وعاتيات الزمن التي مرت عليها بفعل الطبيعة أو الاحتلالات، وأخطرها الاحتلال الإسرائيلي الجاثم. وتعبيراً عن أهمية كنيسة المهد الروحية والثقافية والمعمارية والتاريخية، انبرى نظمي الجُعبة (أستاذ في «جامعة بير زيت» ومؤرخ وأثري ومعماري) للإشراف على اللجنة الرئاسية التي تشكّلت في السلطة الفلسطينية عام 2008 لإعادة ترميم الكنيسة. عمل بدأته اللجنة عام 2013 وانتهى في كانون الأول (ديسمبر) 2022، ومعه إصدار «كنيسة المهد في بيت لحم – أقدم كنائس فلسطين – دراسة في العمارة والفنون والتاريخ والتراث» (نظمي الجُعبة ـــــــ مؤسسة الدراسات الفلسطينية).

تُشكّل صفحات المجلد/ الكتاب بأناقة طباعته وفرادة جماليات الصور التي يتضمنها، رحلةً روحيةً في زمان ومكان الكنيسة بدءاً من الحجر الأساس (328-329 على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين وأمه هيلانة، التي بَنَتْ كنيسة القيامة في القدس أيضاً)، ثم في البناء الثاني بقرار من الإمبراطور البيزنطي جستنيان (543-550 م) بعد تدمير السامريين لها عام 529 م، مروراً بترميمات -أو إهمال- الاحتلالات التي مرّت على فلسطين، ناهيك بصراعات الطوائف أصحاب الحقوق التاريخية من المسيحيين المشرفين على الكنيسة كما يرد في صفحات الكتاب، والتي أدّت في بعض مراحلها إلى إهمال البناء وتآكله.
الفسيسفاء الأرضية فيها تعبّر عن بدايات الزخارف الفسيفسائية الكنسية، وبالتالي ارتبطت بالفن الزخرفي لمدرسة أنطاكيا


يتضمن المجلد/ الكتاب عشرة فصول، وملحقاً خاصاً حول عملية الترميم الأخيرة التي استغرقت عشر سنوات، وتنتظر قرار الاحتفال بترميمها الكامل والتدشين (باستثناء المغارة). ومن أبرز ما ذكره الجُعبة في كلمته الختامية (ص 324-326) عن الأمور النادرة التي تحويها الكنيسة أنه «لا مكان لميلاد السيد المسيح إلا في بيت لحم»، وأنها «من أقدم كنائس العالم أجمع التي ما زالت قائمة»، وأنّ «الفسيسفاء الأرضية فيها من الأقدم على الإطلاق، وهي بهذا تعبّر عن بدايات الزخارف الفسيفسائية الكنسية، وبالتالي ارتبطت بالفن الزخرفي لمدرسة أنطاكيا».


تُشكل «الكنيسة بأعمدتها الخمسين وتيجانها وقواعدها، وهي في وضع ممتاز، حالة فريدة في نوعها بين الكنائس»، إضافة إلى أنه لا يوجد في أي كنيسة في العالم «هذا الجمع بين القديسين الشرقيين والغربيين الذي يظهر من خلال الرسومات على الأعمدة»، ومثلها في فرادة «الفسيسفاء الجدارية، لأنه يعترف بالدور المهم الذي قامت به الكنيسة الشرقية في تاريخ الإيمان المسيحي»، وأيضاً في وجود نقوش في مكان واحد باللغات اللاتينية والسريانية واليونانية، والأندر وجود نقش باللغتين العربية والأرمنية ويتضمن اسمَي ملك مملكة أرمينيا الصغرى هيثوم الأول والملك المعظّم عيسى الأيوبي، وهو «أمر نادر ولم نجد له مثيلاً، ولا علم لنا بأن هناك اسم سلطان مسلم محفوراً في الخشب في كنيسة سوى كنيسة المهد»، إضافة إلى «فرادة أخشابها من حيث القِدَم وهي مصنوعة من خشب الأرز اللبناني الصلب والمتمتّع بدرجة عالية من الديمومة».
صنوعة من خشب الأرز اللبناني الصلب المتمتّع بدرجة عالية من الديمومة


مميزات «كنيسة المهد» كثيرة ونادرة وفريدة في الطراز المعماري العالمي التي حافظت على صورتها الأصلية، وهي «مسألة تدعو بالتأكيد إلى العجب». يتساءل الجُعبة كيف أنها استطاعت أن تحافظ على نفسها خلال خمسة عشر قرناً ونصف قرن على الرغم من تعرضها لكثير من الزلازل والتغيرات السياسية والدينية، ومرورها بمراحل متعددة لم يتم فيها أي ترميم ترميماً سليماً، وكادت أن تسقط عدة مرات بسبب تردي أوضاعها (في عام 2012، أُدرجت بيت لحم و«كنيسة المهد» في قائمة التراث العالمي المُهدّد تحت مسمى «مكان مولد السيد المسيح وطريق الحجاج في بيت لحم كأول موقع يسجل تحت اسم فلسطين).


ومن مميزات المجلد/ الكتاب أنه «الأول باللغة العربية الذي يتناول تاريخ الكنيسة الروحي والمعماري والفني»، ما يؤكد على أهمية اقتنائه للأسباب الواردة في عنوانه ومضمونه، إذ إنه تناول جميع تلك العناوين بأسلوب رشيق وكثيف، يزخر بالمعلومات المضيئة على الترابط ما بين تاريخ «كنيسة المهد» وفلسطين، وبالعكس، فاحتلال فلسطين كان احتلالاً للكنيسة، والصراع على السيطرة على فلسطين، كان صراعاً على الكنيسة لأهميتها الروحية. وقد أشار الجعبة إلى تواريخ ووقائع علاقات وصراعات بين الأطراف المذكورة التي مرّت، سواء في المرحلة الإسلامية العربية المبكرة ومحافظة هذه العهود على الكنيسة (وثيقة العهدة العمرية بين الخليفة عمر بن الخطاب والبطريرك صفرونيوس بعدم صلاة المسلمين في الكنيسة، وأيضاً في المرحلة العثمانية، واللعب على علاقات السلطنة بالدول الغربية خصوصاً فرنسا لتقوية نفوذ طرف كنسي محلي على آخر وقرار السلطان سليمان القانوني سنة 1532 بعدم هدم الكنائس، وبترميمها، ونستذكر هنا - باستنكار- قرار الرئيس التركي إردوغان تحويل «كنيسة آيا صوفيا» البيزنطية إلى مسجد لصلاة المسلمين)، وأيضاً في فترة الانتداب البريطاني (يتضمن المجلد/ الكتاب فصلاً مهماً تُنشر المعلومات فيه للمرة الأولى في ما يتعلق بـ«كنيسة المهد» كما تظهر في سجلّات دائرة الآثار في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني).
احتلال فلسطين كان احتلالاً للكنيسة، والصراع على السيطرة على فلسطين كان صراعاً على الكنيسة لأهميتها الروحية


في المجلد/ الكتاب تَجْوَال بصري على أجمل فنون الزخارف. يشير الجُعبة إلى تشابه أحد الزخارف الفسيفسائية الجدارية في «كنيسة المهد» مع تلك في رقبة قبة الصخرة وفسيفساء الجامع الأقصى الفاطمية (ص 162)، وفرادة التصاوير وجمالية العمارة، والتصاميم الداخلية، والمقتنيات كالحاجز الأيقوني (الأيقونسطاس وقد وضعه الروم الأرثوذكس في القرن الثامن عشر م وهو من الأجمل، وعبارة عن حاجز خشبي ضخم مزخرف ومذهَّب، وبالفضة ومطعَّم بالأحجار الكريمة)، إلى قدسية المقتنيات من جرن العمادة والمذود وقصة الميلاد والنجمة والبئر وغيرها. كما أنها رحلة روحية روحانية تغوص في جنبات التاريخ الديني المسيحي حيث ولد المسيح في بيت لحم، وتعني بيت الخبز الذي نزل من السماء.