«بيتي أنا بيتك... خليك بالبيت... قال يا بيتاً لنا... بيت زغير بكندا... بيت الحبيب... يا حنايا بيتنا» صوتها موشوم على ملايين البيوت والقلوب، لكنّ ذلك البيت المشيّد أواخر القرن التاسع عشر لا يزال إلى اليوم مهجوراً رغم أنّ جنباته احتضنت أحلامها الأولى وقصّة حبّها للفن وعاصي والإذاعة اللبنانية والعائلة، و«كنيسة مار يوسف» الكاثوليكية المحاذية لمسكنها التي ما زالت شاهدة على موهبتها وترتيلها. هنا عاشت فيروز إلى أن خرجت منه مكلّلة بالأبيض إلى بيت الزوجية في أنطلياس. صحيح أنّه ليس البيت الذي ولدت فيه، فهي ولدت في منطقة الدبية، ولكن هذا البيت هو الشاهد على تفتّح حبّها للفن، بقيت تتردّد عليه مع زوجها حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

صمد البيت الكائن في منطقة زقاق البلاط، لكنّه منهك بسبب كلّ ما حصل في العاصمة إلى أن استملكته وزارة الثقافة اللبنانية في الفترة الأخيرة. بعدما كان مصنّفاً كبيت أثريّ كونه بني على طراز البيوت اللبنانية التاريخية، بات إرثاً ثقافياً أيضاً كونه بيت فيروز وأهمّيته المعنوية الثقافية الإبداعية تفوق بأضعاف هندسته الداخلية والخارجية. هناك حاجة ملحّة لإحياء وإنعاش الذاكرة الإنسانية الخصبة بالأغنيات والموسيقى التي تردّد صداها في جنبات البيت والمنطقة، وحُكي مراراً عن مشاريع لترميم البيت وتحويله إلى متحف. علماً أنّ المجلس البلدي لمدينة بيروت قد اتخذ عام 2008 قراراً قضى بإعلان المنفعة العامة عليه، وعلى العقار المجاور الذي يضمّ قصر «الأخطل الصغير» بشارة الخوري بهدف الحفاظ عليهما.
لكن كلّ المشاريع السابقة كانت فقاعات إعلانية لهذه الشخصية أو تلك الجمعية أو ذاك السياسي أو تلك العاملة في الشأن العام، إلى أن أعلن وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال محمد وسام المرتضى في حوار مع «الأخبار» بأنّه سيضع اللبنة الأساسية لترميم بيت فيروز وتحويله إلى متحف وترميم بيت «الأخطل الصغير»..

(هيثم الموسوي)


(هيثم الموسوي)

رشحت معلومات عن وصول مبلغ يفوق المليون ونصف المليون دولار للترميم، لكننا لم نستطع التأكّد من حقيقة المبلغ، ولا تفاصيل إضافية حول هذه المعلومة. قادتنا عملية البحث إلى جمعية «بيت البركة» التي ترأسها مايا إبراهيم شاه. سألناها عن علاقتها بترميم بيت فيروز، فأجابت: «علاقتي بفيروز مثل علاقة كلّ لبناني. أحلم بأن تُكرّم بطريقة محترمة وأن تُعطى حقوقها، ولم نرَ أحداً من الدولة قدّم أي شيء في هذا الإطار. وككلّ الناس الذين عملوا على عاتقهم وأخذوا مسؤوليات بأنفسهم، أخذت أنا المبادرة. فيروز هي الشخص الوحيد الذي يوحّد اللبنانيين، وإذا فكّرنا بمَن لا خلاف حوله، نجد أنّه فيروز والمنقوشة. من المهم جداً بالنسبة إليّ أن نقوم بعمل ما، وكنت أسمع أنّ كثراً اشتغلوا على تكريم السيدة فيروز، منهم السيدة ريما شحادة (من «المؤسسة الوطنية للتراث»)، وجمعيات كثيرة مثل «تراث بيروت» وغيرها. كثر جرّبوا حماية هذا البيت، لكن لسوء الحظ كنت أسمع أنّهم يصلون إلى طريق مسدود مع الدولة، وبالتأكيد بسبب شحّ الأموال». وتضيف إبراهيم شاه: «بعد انفجار بيروت، وبما أنّ لديّ جمعية تهتمّ بالمسنين وجزء من عملها هو ترميم بيوتهم، فقد بتّ أتعاون مع فريق صغير من المهندسين، وكنّا نرمّم البيوت في الجعيتاوي والرميل وفسّوح. فجأة بعد الانفجار، بات الفريق المكوّن من أربعة أشخاص مؤلّفاً من 372 شخصاً، وبدأت الهبات تصلنا. إحدى السيدات الفرنسيات التي زارتنا من قبل رابطة تابعة للاتحاد الأوروبي، وهي مجموعة تنشئ متاحف ومراكز ثقافية في معظم دول العالم، قالت خلال زيارتها إنّها ستساعد «بيت البركة» لإصلاح محلات الأرتيزانا التي تضرّرت بعد الانفجار. سألتها عن إنجازاتهم، وعندما سمعت أنّهم يرمّمون متاحف، عرضتُ عليها اصطحابها إلى أحد الأمكنة. اعتبرتُ حينها أنّها فرصة لا تعوّض ولا يجب إضاعتها. ذهبنا وطلبت من المحافظ أن يفتح لي باب بيت فيروز للضرورة، بما أنّه مقفل ومطوّق، ولا يمكن الدخول من دون الاستحصال على إذن من المحافظ لقيادة الجيش. أعطوني الإذن ودخلنا. عرضتُ عليها تحويل بيت فيروز متحفاً.

(هيثم الموسوي)


(هيثم الموسوي)

أعلمتني بأنّها ستتواصل مع أحد الأشخاص لعرض المشروع عليه. بعد مرور شهر، اتصلت بي قائلة إنّه سيتمّ منحنا مبلغاً لترميم المبنى. اتصلنا بالمهندس فضل الله داغر لأنّه أحد أعضاء مجلس إدارة «بيت البركة»، وهو معروف بخبرته ويمتلك ذوقاً رفيعاً وتقنية مميّزة للحفاظ على التراث اللبناني. أجرينا الدراسة وحدّدنا المبلغ المطلوب وتمّ إرسال الدراسة. ولسوء الحظ لا يمكنني ذكر الأسعار لأنّ الرابطة طلبت منّا بما أنّها الجهة المانحة أن تمرّ كل التفاصيل من خلالها، حتى إنّني طلبت منها الإذن لأتحدّث معكم على سبيل المثال. لا يريدون لأحد أن يتحدّث في موضوع ترميم بيت فيروز لأنّه مشروعهم. طبعاً المبنى ملك الدولة اللبنانية وتحديداً ملك وزارة الثقافة. البيت موجود منذ القرن التاسع عشر، وفيروز كانت طفلة حين سكنته وتركته في صباها، وباتت اليوم في الثمانين من عمرها، ولم يفعل أحدهم شيئاً في ما يتعلّق بهذا البيت. لذا علينا احترام الجهة المانحة وما يطلبون منا بالتحديد. مشروعهم ليس فقط إنشاء متحف، بل جعله أيضاً نقطة ارتكاز للموسيقى اللبنانية كونه بيتاً تراثياً في المقام الأول، ولديه رونق البيوت التراثية اللبنانية، وهو أيضاً بيت ذو طابع فني لأنّه بيت فيروز أي بيت الموسيقى اللبنانية».
وعن العمل مع الجهات المانحة الضخمة، تضيف: «طريقة العمل قائمة على الحصول على ثلاثة عروض لكلّ تفصيل. نحن لا نتعاطى السياسة ولا نعطي رأينا بأي شيء. قُبل المشروع ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي أبدى رأياً إيجابياً بأن يُرمّم البيت ولم نر من الجهات السياسية لا خيراً ولا شراً. هناك عملية طويلة تحتاج وقتاً، والنظام البيروقراطي في لبنان يجعل الأمور بطيئة، ما يعني أنّ هناك وقتاً سيمضي قبل أن نحقّق الحلم، لأنّه حلم لكلّ لبنان».

(هيثم الموسوي)


(هيثم الموسوي)

وعمّا إذا كان بيت الرحباني يريدون هذا البيت أو لا، تجيبنا: «ليس لدينا خطّ مفتوح مع السيدة فيروز، لأنّنا لا نعرفها شخصياً، لكن السيدة شحادة قريبة منها وناضلت كثيراً لحماية هذا البيت، ونمرّ من خلالها لنحكي مع فيروز، وسبق لريما الرحباني أن أبدت رأياً بأنّها لا تريد هذا البيت. قالت إنّه لو كنا نريد أن نرّممه، كنا رمّمناه، ولا أعرف مزيداً من التفاصيل. البيت اليوم ملك وزارة الثقافة، وهي التي تقرّر ماذا تفعل به، والشعب اللبناني يحبّ اليوم أن يكون هناك شيء ما لفيروز. هو بحاجة لهذا لأنّ فيروز تجمع لبنان واللبنانيين والثقافة والعرب. تجمع الجميع. مَن يسمع صوت فيروز، يحنّ لها ويحنّ للأيام الماضية. نحن ننشئ هذا المتحف في بيت تملكه وزارة الثقافة، فهو بالتالي ليس ملكاً خاصاً». أمّا عن تحديد دور «بيت البركة» في بيت فيروز، فتقول: «هذا الدور تحدّده الـGuilde (جمعية تابعة للدولة الفرنسية تأسست عام 1967) ونحن سنتعامل مع وزارة الثقافة. والمسؤولون في الجمعية سيدفعون مباشرة للأشخاص الذين سينظّفون ويرمّمون. لدى «بيت البركة» دور إشرافي لأنّنا نمثّل الـ Guilde في هذا المشروع». تضيف إبراهيم شاه: «سنتعاون مع ريما شحادة لأنها من أوائل السيدات اللواتي حاربن للحفاظ على هذا المنزل، سنتعاون لندير هذا المتحف ليعجّ بالأنشطة. سنجمع الشباب والصبايا وصغار السنّ، لأنّ الكبار خربوا البلد، فالصغار سيقدّرون هذا التراث الفني والثقافي وسيحفظونه. ما تركه لنا بيت الرحباني، لم يتركه أحد منذ أيام جبران خليل جبران، وحان الوقت لنعزّز ونكرّم فيروز. سنعمل على هذا المشروع بتواضع لأنّه الأهم بالنسبة إليّ، ولأنّ ما خرب المشاريع الكبيرة التي كان من الممكن أن تحصل في لبنان، هو عدم التواضع».
أعلن الوزير محمد وسام المرتضى لنا إنّه سيضع اللبنة الأساسية لترميم منزلَي فيروز و«الأخطل الصغير»


نسألها عما إذا كانت هناك جهة تعرقل هذا المشروع ودور وزارة الثقافة التي تملّكت البيت، فتجيب: «الوزارة تقوم بكلّ ما في وسعها لتسهيل العملية والمشروع لا العكس. والوزير متحمّس جدًا لهذا المشروع، وقام ويقوم بكلّ استطاعته لأجله. وللحقيقة لم أصادف أي عراقيل من أي جهة، والجميع يعمل ليرى هذا المشروع النور. المشكلة تكمن في قوانين الملكية وتحويلها من البلدية إلى وزارة الثقافة، فالتأخير هو بسبب إجراءات هذه القوانين».
وعن ملكية المتحف الذي من المقرّر أن ينشأ بعد ترميم البيت، تضيف: «المتحف هو ملك وزارة الثقافة، ونحن نتبع للجهة المانحة وما ستقرّره، ولوزارة الثقافة الحق في القبول بشروط الجهة المانحة. وأحد الشروط هو أن تكون لجمعية «بيت البركة» يد في إدارة المتحف، ولن نكون وحدنا في هذه الإدارة، بل ستكون هناك لجنة تضمّ ممثلين عن وزارة الثقافة وأطراف آخرين، وهذه اللجنة تدير المتحف». تقول إبراهيم شاه إنّه لم يتمّ التوقيع على الاتفاقية حتى اليوم، فـ «نحن في انتظار الانتهاء من بعض الأمور القانونية الصغيرة، البيروقراطية هي مصدر الإزعاج بسبب الوقت الذي تحتاجه، النظام البطيء هو المشكلة».



ريما الرحباني: انسوا الموضوع
في الصيف الماضي، كثرت تحرّكات وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى تجاه بيت فيروز، واجتمع بالعديد من الأطراف بغية البحث في ترميم البيت. وفي أيار (مايو) الماضي، صرّح بعد زيارة قام بها إلى البيت رافقه فيها وزير العدل القاضي هنري خوري ومحافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبود بأنّ «هذا المنزل يمثل بحد ذاته قيمة تراثية مهمة جداً تعكس الواقع التراثي لبيروت القديمة، يضاف إلى ذلك أنّه يتميز بما هو أهم، إذ إنّه كان في وقت من الأوقات مسكناً للسيدة فيروز التي تقيم في قلب ووجدان كل لبناني وكل عربي». وختم: «نحن نقول لمن يراهن بأن هذا المنزل سوف يترك لمصيره لينهار بأنّه واهم، هذا البيت لن ينهار، وستعمل وزارة الثقافة بالتعاون مع جهة مانحة، على إعادة ترميمه وتحويله متحفاً يختزن كل الموروث الثقافي المتعلق بالسيدة فيروز». بعدما تصدّر بيت فيروز المواقع والمنابر الإعلامية طوال فترة الصيف، اكتفت المخرجة ريما الرحباني بتعليق نشرته على صفحاتها الرسمية على السوشال ميديا في الخامس من تموز (يوليو) 2022، جاء فيه: «بخصوص المتاحف! عم يخبّروني اليوم إنّو الحركة ناشطة حول هالمشروع! اللي سَبَق وأعلنت انسحابنا منّو من تلات سنين أو أربعة! وما بعرف كيف بعدو ماشي وبإيعاز من مين ولا بدّي أعرف! لأن أكيد من شي مُتعَربش حابِب ياخد شويّة ضو. يمكن فشّة خلق ع زربة كورونا والله ما بعرف! بس إنّو هلق فجأة، عفواً يعني، شو فوَّقُن ع هيك مشروع؟ جداً ثانوي وما بيفيد بشي، وبوضع البلد الحالي! إلا السمَاسِرة والمُتاجرين باسم فيروز! شو تِخمِين في قرشين بدّكن تقشطوهن للفرنساويّة وما عارفين كيف؟ وإلا كيف؟ بدكن يا دولة عن جَد تكرّموا فيروز؟ أوكي، جيبولا الكهربا والمي وكِنتوا عملولا طبّة حَد بيتا على أوتستراد الموت لتخفيف سرعة السيارات الفِلتانة وما عندكُن سلطة عليها! وردّولا مصريَّاتا اللي من عَرَق جبينا ونشلتوهن! وغير هيك ما معاوزينكن ولا بوردة حتّى! وإذا في حال عملتولا كل هول وبعد حابّين تكرموها، فهّموه لمدير تلفزيون لبنان إنّو فيروز بيحقّلا بنسخة من أرشيفا اللي عم يتِلَف بدولتكن التَنَك، حتّى ما طلعت خشب! (...) ومتَاحِف، انسوا الموضوع كلّياً لا من قريب ولا من بعيد. نحنا منِبقى منعمل مَتحف ببيت فيروز وعاصي. شكراً».