الروابط التاريخيّة بين لبنان والبرازيل قديمة ومستمرّة حتّى اليوم. هذا ما يؤكد عليه معرض «القنطرة… رحلات دوم بيدرو الثاني إلى العالم العربي/ 1871 ــ 1876» الذي تُقيمه السفارة البرازيليّة في «دار النمر للفن والثقافة» في مناسبة مرور قرن ونصف القرن على رحلة الإمبراطور البرازيليّ دوم بيدرو الثاني إلى لبنان عام 1871. كان بيدرو مستشرقاً أيضاً، فدوّن جولاته اللبنانيّة ومذكّراته ومشاهداته وانطباعاته عن هذا البلد، حتى إنّ منظّمة اليونسكو تبنّت هذه المدوّنات التي تشكّل جزءاً من المعرض الذي يشمل رسوماً للآثار التي شاهدها، فضلاً عن صور من مجموعته الخاصة والمذكّرات والرسائل. معرضٌ شيّق جداً، افتتحه القيّم عليه روبرتو خطلب تحت رعاية السفارة البرازيلية. ومن أجمل ما يقدمه إلى زوّاره الصور الفوتوغرافية لوجوه ولقطات تاريخيّة قديمة، إلى جانب لوحة إرشاديّة توثّق زيارة الإمبراطور إلى لبنان وسوريا ومصر وفلسطين، وتعبّر فوتوغرافيّاته عن الواقع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في هذه البلدان، وبخاصة في لبنان في عامَي 1871 و 1876.
وبحسب السفير البرازيلي في مصر أنطونيو باتريوتا، فإنّ الإمبراطور دوم بيدرو الثاني حكم البرازيل من 1831 إلى 1889 وكان مولعاً بالأسفار والتصوير وعرف عنه حبّه للبنان، فكان أوّل رئيس دولة من الأميركيّتين يزور لبنان، مرة أولى عام 1871 وثانية عام 1876، جامعاً خلال أسفاره أكثر من عشرين ألف صورة فوتوغرافية احتفظت بها مؤسّسة المكتبة الوطنية في ريو دي جانيرو، واعترفت بها اليونسكو بكونها سجلاً لذاكرة العالم.
لا شك في أنّ زيارة الإمبراطور البرازيليّ دوم بيدرو الثاني إلى لبنان وسوريا وفلسطين شجّعت شعوبها، وبخاصة الشعب اللبناني المحبّ للهجرة، على التوجّه ناحية البرازيل هرباً من الأوضاع الاقتصاديّة السيّئة عهد ذاك ومن الحروب في المنطقة (ما أشبه اليوم بالأمس). نزل الإمبراطور في بيروت، برفقة زوجته ونحو مئتي شخصية برازيليّة، قادماً من اليونان عن طريق البحر، وزار «الكلية السوريّة الإنجيلية» (الجامعة الأميركيّة اليوم) وبكركي وبعلبك وضهر البيدر وشتورا، وأمضى ليلة في زحلة، ثم وجّه في ختام رحلته رسالة إلى الجمهور يرحبّ فيها باللبنانيين ويدعوهم إلى الحلول أهلاً والوطوء سهلاً في ربوع البرازيل. سرعان ما بدأت موجات الهجرة الكثيفة، ومعظمها من لبنان وسوريا، وكان دافع هؤلاء الحصول على فرص عمل والفرار من التجنيد الإجباريّ في الجيش العثمانيّ آنذاك.
لعلّ استعادة هذا الجزء اليسير من تاريخ العلاقات البرازيليّة اللبنانيّة، والعربية القريبة عموماً، هي مدخل ضروريّ للتعريف ‏بمضمون هذا المعرض وأهدافه، إذ يذكّرنا بهذه العلاقات الوثيقة من خلال الصور الجميلة، المؤثّرة والمعبّرة والمضمّخة بالحنين. فالمعرض ليس بالطبع معرضاً فنّياً تشكيلّياً، بل يميل أكثر إلى التاريخ، وإلى التراث الإنسانيّ الذي تبنّته وصنّفته منظمة اليونسكو العالمية كجزء من التراث العالميّ الحضاريّ. ولذلك، فإنّ زيارته تعتبر رحلة تاريخيّة ممتعة وتثقيفيّة في مسيرة الجدود المهاجرين الذين قادتهم الظروف القاسية إلى أقاصي المعمورة، فكافحوا هناك وجمع بعضهم الثروات من عرق جبينه، ونجح بعضهم الآخر في احتلال أرفع المناصب السياسيّة والاجتماعيّة والطبّية والعلميّة. وهذا أمر معروف وغير مستغرب بالنسبة إلى اللبنانيين الذين يُجلّون في أي بلد يهاجرون إليه، أكثر ممّا يفعلون في بلدهم ولأجل وطنهم!

* معرض «القنطرة. رحلات دوم بيدرو الثاني إلى العالم العربي/ 1871 ــ 1876»: حتى 21 كانون الأول (ديسمبر) المقبل ــ «دار النمر للفن والثقافة» (الطبقة الثانية ــ شارع أميركا ــ كليمنصو/ بيروت). للاستعلام: 01/367013