ليتني لم أقرأ الكتاب.
منذ سنوات وأنا أعِدُ نفسي بقراءته.
لكني لم أفعل.
بقيَ على الرفّ ينتظر.
لكني لم أنسَ.
لم أنسَ أنه عليَّ أن أقرأه في يومٍ ما.
لم أتقصّد أن أقرأه الآن.
الآن أعني في منتصف أيلول.

قرأت الكتاب.
ويا ليتني لم أفعل.

كان يكفيني ما كنتُ أعرفُ منذ سنوات طويلة.
منذ أن قرأتُ، وأنا في أوّل مشواري الجامعي، نصَّ جان جينيه «أربع ساعات في شاتيلا» (1).
قرأتُ النصَّ بالفرنسية. وكان قد مرّ ربما عام على صدوره. وكنت أدرس اللغة الفرنسية وآدابها في بلد منشئها.
تركَ النصّ أثراً عميقاً في نفسي.
لدرجة أنني اخترته موضوعاً لأطروحة الماجستير.



لكن عندما عرضتُ الموضوع على أستاذي المشرف، قال لي: «حتّى لو وافقتُ أنا على الموضوع، فإنّ الجامعة لن تسمح لك بنيل شهادة الماجستير».
لم أفهم في لحظتها.
لم أفهم أنني قد أُحرَم من شهادتي بسبب نصّ ضجَّ به العالم، يصف فيه كاتب فرنسيّ كبير ما شاهده في مجزرة صبرا وشاتيلا.
أصررت على اختياري.
فعاد الأستاذ وأضاف: «ما رأيك لو تحاولين اقتطاع كلّ ما هو ذات طابع سياسي من النصّ، وتدرسين فقط ما يتعلّق بوصف المجزرة»؟
بِحَيرةٍ وسذاجةٍ حاولتُ.
وبقلم الرصاص غطّيتُ كلَّ المقاطع والجمل التي يتّهم فيها جان جينيه إسرائيل والقوات المتعدّدة الجنسيات بحماية ارتكاب المجزرة، وبالتالي بالمساهمة فيها.
نظرتُ إلى النصّ: صار مشوّهاً لدرجةٍ تستحيلُ معها قراءته أو فهمَ معانيه.
انتفضتُ.
قلتُ للأستاذ: إنّ تقطيع النصّ بهذا الشكل يلغي النصّ بما هو نصّ، أي كلُّ متماسك. ذلك أنّ جان جينيه لا يفصل بين من قُتل ومن قَتل.
صمتَ الأستاذ.
ثم قال: أنا مستعدّ للإشراف على رسالتك لكن، أكرّر، لن تقبل الجامعة بذلك وسنكون أنا وأنت في ورطة.
لم أدرس نصّ جان جينيه «أربع ساعات في شاتيلا» في أطروحة الماجستير.

في منتصف أيلول أخذتُ الكتاب.
لم أتقصّد قراءته في هذا التوقيت.

تجتاحني ارتجافات تضطرني للتوقّف.
أضع الكتاب جانباً
أخرج إلى الشرفة.
ألامس النباتات علّها، كعادتها، تهدّئ من روعي.

تلاحقني صوَر المرأة التي اغتصبوها مراراً ثم قطّعوا ثدييها قبل أن يذبحوها.
تلاحقني صوَر الطفل الرضيع الذي حطّموا رأسه على الحائط.
تلاحقني صوَر الطفل الذي دهسوا رأسه على الأرض بجزمتهم.
تلاحقني صوَر الطفل الذي قطّعوا أطرافه ورأسه ثم تسلّوا في ترتيبها بشكل دائري والرأس في نصفها.
تلاحقني صوَر المرأة الحامل التي أُخرج جنينها ثم وضع على بطنها المبقور.

أنظر إلى السماء.
أناشد زرقتها علّها تمسح عني صوَر الرعب الدمويّ.
أعود إلى الغرفة.
أمسك بالكتاب.

لم يصف جان جينيه القتل.
وصفَ القتلى.
فهو من أوائل من دخل المخيمات.
هو الكاتب الشاهد لضحايا المجزرة.
أمنون كابيليوك وصفَ القتلَ. ووصفَ القاتلين (2)
عندما دخل جان جينيه كان القتل قد توقّف.


لم يبقَ سوى آثاره الفظيعة.
كتب جينيه عن الرائحة.
عن الذباب.
عن الأجساد السوداء المنتفخة المكدَّسة في الأزقة.
مع كابيليوك ندخل مع القَتَلة.
لنشهدَ ساعةً بساعةٍ على ما فعلوه.
نجول معهم في الأزقة وداخل الملاجئ حيث يلاحقون النساء والأطفال والشيوخ.
من يقتلون منهم بالرصاص يموت موتاً رحيماً.
ندخل معهم المستشفى حيث يقتلون الجرحى والمرضى والممرضين.
وكذلك كلّ من احتمى هناك.
نرى جرافاتهم تهدم البيوت المتواضعة على سكانها الأحياء.
إنه فكرٌ يحلّل إلغاء شعب ما أو قوم ما أو إثنية ما


نسمع كلامهم.
يقولون للطفلة: سنقتل كل عائلتك أمامك ونبقيك على قيد الحياة كي تخبري.
يحفرون على عجل لكي تقوم الجرافات بدفع الجثث في
الحفرة.

أربعون ساعة.
أكلوا وشربوا وضحكوا.
ناموا وقاموا.
في عرس الدم الرهيب.

أربعون عاماً اليوم.

والدم المسفوك ما زال نضراً.
ذلك أن ما من أحد حوسب.
وما من أحد وقف في محكمة.
وما من أحد دخل سجناً.
وما من حقّ استرجع.
وما من عدالة حلّت.

قليلةٌ هي المجازر المماثلة في التاريخ الحديث.
مجازر يخطّطُ فيها فريقٌ ما لإبادة فريقٍ آخر.
ثم يقوم بتنفيذ هذه الإبادة بأبشع ما يمكن للإنسان - إن كنا نستطيع إطلاق هذه الصفة هنا - أن يبتدعه من وسائل مرعبة.
ثم لا يشعر بأنه اقترف شيئاً فظيعاً.
إنه فكرٌ يحلّل إلغاء شعب ما أو قوم ما أو إثنية ما.
لا يمكن تفسير الفظائع التي ارتُكِبَت بالنساء والأطفال والشيوخ في صبرا وشاتيلا إلا من هذا المنطلق: لقد قررنا، نحن القتلة، أنّ هؤلاء لا يحق لهم أن يحيوا.
يجب إذن إبادتهم عن بكرة أبيهم.
بملء الوعي تمّت المجزرة.
لم تكن فورة غضب ولا نزعة انتقام.
بملء الوعي تمّت فظائعها.
كي تُرعب من بقي.
وكي يهرب إلى غير رجعة.

لكنّ أحداً لم يحاسب سفّاحي صبرا وشاتيلا، المعروفين بالأسماء.
ومن ساعد في التخطيط ومن نظّم كل مجريات المذبحة، ومن تفرّج على الفظائع ومن حرّض على القتل والتدمير، فلم يحاسب إلا صورياً.

ماذا بقي إذن؟
بقي أن نقرأ.
بقي أن نعرف.
بقي أن نشهد.
بقي أن نذكر.
بقي لنا الزمن الذي منه ننهض لنكتب التاريخ.

لن أقول يا ليتني لم أقرأ الكتاب.

فعلى الرغم من الرعب الذي يجتاحنا علينا أن نعرف.
لا لكي ننتقم.
بل لكي نواجه أي إمكانية لنشوء هكذا فكر إلغائيّ في بلدنا.
ولكي نواجه كلّ معتدٍ.
ولكي لا نثق بضمانات أحد.
ولكي لا نبقى أبداً من دون القوّة التي تحمينا.

(1) Jean Genet‚ Quatre heures à Chatila, Revue d’études palestiniennes‚ janvier 1983.
(2): كتاب امنون كابيليوك عن مجزرة صبرا وشاتيلا
Amnon Kapeliouk‚ Sabra et Chatila, Enquête sur un massacre‚ Seuil‚ 1982.