لفتت ظاهرة التجمّع والحشود الشعبية غير المسبوقة في إحياء شعيرة زيارة أربعين الإمام الحسين علماء الاجتماع والسياسة، إلى الأبعاد الأيديولوجية والثقافية والسياسية التي حكمت تاريخياً وما زالت المناخ الثقافي الشيعي منذ بداية الألفية الثالثة. فإقامة طقس ديني ضمن مناخ روحي وعاطفي ووجداني لحدث تاريخي تجاوز الألف وأربعمائة عام ضمن صورة بانورامية منظّمة، يستلزم من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا دراسته وتحليله وفهمه، ضمن منظورات علمية وعملية خاصة.في دراسة مسيرة الأربعين وأبعادها، يتداخل الديني والثقافي والسياسي والانثروبولوجي والاقتصادي والتنظيمي. من هنا كان بحث «المقدس بين الديني والسوسيولوجي/ زيارة أربعين الإمام الحسين» قراءة سوسيو-أنثروبولوجية. هذا البحث الميداني الذي صدر في «مجلة العلوم الاجتماعية» التابعة للجامعة اللبنانية، أجراه الباحثان حسين أبو رضا (رئيس مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية) وندى الطويل (أستاذة الأنثروبولوجيا في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية) في مدينتي النجف وكربلاء، على امتداد سنتين، لفك شيفرة المقدّس ورموزه. علماً أنّ زيارة أربعين الإمام الحسين في العراق تُصادف يوم العشرين من شهر صفر من كل عام هجري، وهي تعتبر أهم تجمع بشري عالمي-ديني معاصر. وقد اختارها الباحثان لما تحتويه من التقاطعات المعرفية، والسياسية، والدينية والاجتماعية في المجتمع العراقي تحديداً، حيث عملا على فهم الميكانزمات الخاصّة بالطقوس والشعائر الدينية التي عكسها المسلمون من الأيديولوجيا إلى الواقع، ومارسوها ضمن المجتمع العراقي المتعدّد طائفياً وثقافياً وسياسياً.
لقد مرّت ظاهرة أربعين الإمام الحسين بمحطات تاريخية متأرجحة بسبب النظم السياسية التي كانت سائدة على مر التاريخ، إلاّ أنّها حافظت على استمراريتها خلال ألف وأربعمائة عام، مما يطرح تساؤلاً جوهرياً متّصلاً بالإيمان بهذا الخط.
إن زيارة أربعين الإمام الحسين هي شعيرة دينية انطلقت من عمق التاريخ الإسلامي، وتحولت إلى ظاهرة من خلال المشاهد الخاصّة بها، فالمشّاية والضيافات والشعارات وغيرها كانت موجودة بنسب متفاوتة تاريخياً، لكنها أخذت البعد الديني والسياسي بسبب الحشد الكبير من المشاركين، ومن خلال تطوير هذه العادات.
كما جاءت نتيجة تطوّر عوامل عديدة سياسية ودينية وتكنولوجية، وأسهمت ثورة الاتصالات والإعلام في نقل الزيارة، وبالتالي تشجيع الآخرين عليها، بالإضافة إلى تطوير نظرة المؤمنين بأهمية هذه الشعيرة الدينية حالياً، وساعد ذلك تشجيع وحثّ المؤمنين عليها من خلال تأصيل فقهي لبعض علماء الشيعة عبر التاريخ.
لقد أشار مايكل برانت في كتابه «مؤامرة التفريق بين الأديان الإلهية» إلى أنّ قوّة المذهب الشيعي تعود إلى عاملين رئيسيين: قوّة رجال الدين داخل المجتمع الشيعي، وثقافة الاستشهاد التي ولّدتها حادثة كربلاء باستشهاد الإمام الحسين. وخلص إلى أن الأمور التي يجب الاهتمام بها لمعرفة العقل السياسي والديني الشيعي هي: مسألة ثقافة عاشوراء والاستشهاد في سبيل الله، فالشيعة تبقي هذه الثقافة مضيئة ووهّاجة عن طريق مراسم وطقوس عاشوراء السنوية.
هناك افادة واضحة من العامل الديني والسياسي والمصالح المشتركة، فكلّها تصب في مصلحة حفظ هذه القوى على السلطة واستمرارهم بها، بل إن الحفاظ على زخم هذه الشعيرة وتطويرها يتلاءم مع مصالحهم السياسية. وهنا تجدر الإشارة، إلى أنّ اعادة إحياء هذه الظاهرة وتطويرها الراهن عبر البنى الاجتماعية والحزبية والدينية، قد أتى كتعويض للطموحات السياسية المكبوتة والمحبطة تاريخياً، وكإعلان عن انبعاث جماعي لاستعادة الهوية الشيعية العراقية.
من هنا نستطيع أن نفهم وبعمق، لماذا دفعت القوى السياسية بمختلف اتجاهاتها إلى مرافقة هذه الظاهرة الطقسية في محاولة منها لاستثمارها ضمن الحراك السياسي الاجتماعي العراقي، مستغلّين في ذلك هيمنة المقدّس على الثقافة الشيعية، ومحاولين تطويعها لأهداف سياسية داخلية.
من خلال هذا البحث، لمســــــنا أثر الظروف الخارجية والداخلية على تبلور بعض النظريات والمفاهيم أو ضــــمورها، وكيفية اســــتغلال الطقوس الشــــعبية الدينية، وعلى رأســــها طقوس عاشــــوراء، وزيارات العتبات المقدّســــــــة، في عملية تأجيج العواطف والضــــــــغائن المكبوتة، حيث يتداخل آنئذٍ، العنصــــــــر التاريخي لظلامة كربلاء بالظلامة الســـياســـية والاجتماعية الراهنة.
نحن لســــــــنا أمام عملية تحويل عقائدي قســــــــري طارئ، ولكن حين يتم اسـتدعاء الذاكرة التاريخية والثقافية المشبّعة للشيعة، نكون أمام شـكل من أشـكال ما يعرف بالمجزرة الثقافية. الأمر الذي أدى بحسب الباحثين إلى توتّر مســـــــــتديم في العلاقة بين الشـــــــــيعة والســـــــــلطة الحاكمة على مر العهود والحكّام. وقد كان النزوع الأيديولوجي المفرط لدى الســـــــلطة دور في وقوع انقســـــــامات عميقة داخل المجتمع العراقي من جهة، وبينه وبين السلطة الظالمة من جهة أخرى، دورًا في محافظة المذهب الشيعي على التضامن والوحدة من خلال الطقوس الدينية وأهمها ذكرى عاشوراء.
في قراءتنا لهذه الظاهرة، نجد أنّ مشهدية زيارة الأربعين وتأصيلها الديني والسياسي قد تجاوزت الهويّات الفرعية ووحّدتها ضمن طقوس دينية وسياسية واجتماعية مميّزة.
****
يمكنك الاطلاع على البحث كاملاً، أو تنزيله مجّاناً من خلال الرابط الإلكتروني الخاص بمجلّة «مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية»
https://crss-ul.com/uploads/_33.pdf