فلسطين ــ الكويت ــ الأردن. الهويات التي يُضاف إليها ارتحالات جغرافيّة أخرى. أين تضعك هذه التعدّدية في الهويات أو الارتحالات على مستوى الكتابة ــ المقولة: هل تنجح هذه الهويات في إقامة علاقة جوار أو مساكنة مع بعضها، أم أنّها هويات حديّة ــ بينيّة تعيش في توتّر وقلق مستديم؟ــ وُلدت في الكويت، لكني لست كويتياً، ولا أحتفظ بذاكرة للمكان لأنني غادرته حين كنت طفلاً في الرابعة. هويّتي المشتبكة هي الأردني الفلسطيني، التي تطوّرت كثيراً بحكم السفر والإقامة في مدن أخرى. الفلسطيني الأردني حالة خاصة في الهوية الفلسطينية لأسباب شتى. نحن الأكثرية عدداً في الأردن، لكننا نملك إحساس الأقلية، سيّما حين يتعلق الأمر بقضايا سياسية كبرى في البلد. وأنا أنتمي أيضاً إلى حالة خاصة ضمن الفلسطينيين الأردنيين، هي حالة الفلسطيني الذي يملك هوية فلسطينية ويستطيع الذهاب إلى فلسطين عبر الجسر. منذ طفولتي وأنا أشعر أنني ضائع بين المكانَين: حين أكون في الأردن لا أشعر أنني أردني تماماً، وحين أزور فلسطين أشعر أن الناس ينظرون إلي بوصفي فلسطينياً ذا امتيازات، فلسطينياً لم يدفع تماماً ثمن فلسطينيّته ولم يعانِ ولم يُسجن ولم يُضرب ولم يُصفع من جندي إسرائيلي. طوال حياتي وأنا أشعر بغليان الهوية داخلي، لكن الغريب أن فترة إقامتي في نيويورك كانت أكثر مراحل حياتي سلاماً داخلياً. ربما لأن نيويورك مدينة الغرباء، والغريب للغريب نسيب كما يقول امرؤ القيس. في نيويورك، كنت أعرّف نفسي كفلسطيني، لأن ذلك التعريف بحد ذاته رسالة سياسية.
عمر خليفة: هناك كتّاب عرب مكرّسون يقدّمون إسهالات روائية لا تستحق النشر

مشكلة الكتابة ضمن هذه الهويات المتعددة تبدأ حتى حين ترغب بتعريف ذاتك ونصّك. هل روايتي تنتمي للأدب الأردني أم الفلسطيني مثلاً؟ لم تستقرّ بعد في الأدب العربي هوية «الأردني الفلسطيني»، رغم أن الفلسطيني خارج فلسطين يملك دوماً ما يسمى بالذات المنشطرة hyphenated self. نحن فلسطينيون وشيء آخر، والكتابة بالنسبة إليّ هي محاورة هذا الانقسام مكانياً وزمانياً. أحد التحديات التي أواجهها هي صعوبة الكتابة عن فلسطين كمكان وجغرافيا، ببساطة لأنني لا أعرفها جيداً. كيف سأكتب رواية تقع أحداثها في نابلس أو رام الله؟ هل سأفتح خريطة غوغل وأُمَوقع روايتي في شوارع لم أمشِ فيها ولا أعرف شخوصها وروائحها؟

رغم قصر عمر تجربتك الروائيّة، إلا أنّك نجحتَ في لفت النظر إلى طروحاتك في الكتابة. ما الذي يقود العمل الأدبيّ لنجاحه: الفكرة إلى اللغة واختياراتها كما يرى أمبرتو إيكو، أم أنّ اللغة هي جزء من ميول الكاتب وتكوينه اللغوي الذي يفرض نفسه على الفكرة والعمل وصياغته؟
ـــ ليس هناك قاعدة محددة. هناك روايات حبكة، وروايات شخصية، وروايات مكان، وروايات لغة. من يحبون نجيب محفوظ، وأنا منهم، يعشقون شخصياته. ما هي حبكة «بين القصرين» مثلاً؟ ليس فيها شيء مميز، لكن شخصياتها هائلة. اللغة في العمل الروائي ضرورية، لكن تحويلها إلى هدف قد يصبح مقتلاً للرواية. أنا أحب الحبكات، وأعتقد أن هناك مشكلة في بعض الأوساط السائدة في الكتابة العربية تتمثل في ازدراء الحبكة واحتقارها. أسهم نقّاد عرب في إشاعة هذه الفكرة، متأثرين بالنظريات النقدية الفرنسية. هناك عدد هائل من الروايات العربية التي تقرأها من البدء إلى الخاتمة من دون أن تجد عقدة ما. مجرد تهويمات لغوية لا تقود إلى اتجاه، ولذلك تبدأ الرواية وتنتهي بدون أن يعلق في الذاكرة شيء منها. ليس هذا دعوة للكتابة الكلاسيكية التقليدية، لكنه دعوة لإعادة الاهتمام بالحبكة، بالفكرة التي تسعى الرواية إلى «سردنتها». كافكا كان يقول إن العمل العظيم هو الذي يصفعك. كيف سيصفعك عمل لا يحتوي فكرة مثيرة؟ لا أريد أن أسمّي، لكنّ كثيراً من الكتاب العرب المكرّسين ــ ولا أدري كيف أصبحوا مكرّسين ــ يقدّمون إسهالات روائية لا تستحق النشر.

أن تكون فلسطينياً يعني أن تنصهر أو تصهر الهويات الأخرى داخل هذه الهوية، أو أن تنصهر داخلها لا أن تصهرها. وربّما أن يتعلّم الفلسطيني كيف يجبر هذه الهويات أن تعيشَ في أمان جوار بعضها. لنعد معك إلى تعريف من هو الفلسطيني في ضوء التحولات في أرض الواقع السياسية وما يتمخّض عنها من ضرورة تغيّر التعريف؟
ـــ التجربة الفلسطينية علّمتنا أنّ ليس هناك شكل واحد مستقر للهوية الفلسطينية. على المستوى العملي، هناك تجارب فلسطينية متعدّدة بعدد الأماكن والرحلات التاريخية التي اختبرها الفلسطينيون. فلسطينيو أميركا، وفلسطينيو تشيلي، وفلسطينيو الأردن، وفلسطينيو لبنان، وفلسطينيو فلسطين يشتركون حتماً في أشياء، لكنهم يختلفون أيضاً في أشياء كثيرة. على المستوى النظري كذلك، هناك تعدّد يصل حدّ التضاد في الرؤى الفلسطينية. هذه حالة صحية أحياناً، لكن سطوة الاحتلال والأفق المسدود الذي تعيشه القضية الفلسطينية، يجعلانني أتمنى أحياناً أن يظهر اتجاه سائد ذو رؤية محددة تستطيع خلق هيمنة ما في المشهد الفلسطيني بهدف تثوير النضال ومأسسته نحو اتجاه أكثر وضوحاً.
تتحول فلسطين من صراع استعماري إلى صراع بين ذاكرتَين، وهذا تزييف للقضية

حركة المقاطعة BDS كانت محاولة ربما لملء الفراغ، لكنها تبدو أممية أكثر من كونها فلسطينية، والزخم الذي تملكه في أميركا قد يفوق زخمها في فلسطين نفسها. من هو الفلسطيني؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عليه، وربما يكمن السحر الفلسطيني في أن فلسطين غدت بالنسبة للعالم التقدمي إحدى القضايا القليلة الباقية ليعرف الإنسان نفسه أخلاقياً عبرها. فلسطينيو الدم، وأنا وأنت ننتمي إليهم، يشعرون أنهم لا يملكون القدرة على السيطرة معرفياً على المقولات الفلسطينية. قد تكون هذه حالة نادرة في تاريخ الأمم، لكن فلسطين أصبحت فكرة، شئنا أم أبينا، فكرة تستدعي مقولات العدالة والذاكرة ومعاداة العنصرية والصهيونية وإنهاء الاستعمار. ولأن هذه المفاهيم أكثر استقراراً في الغرب، فإن المشتغلين فلسطينياً في الأوساط الغربية، حتى من غير الفلسطينيين، قد يملكون مفاتيح لمقاربة القضية لا يملكها الشعب الأصلي نفسه. لنقل إن هناك فلسطين الواقعية، وفلسطين النظرية. ليس هناك صراع بين المجالين، لكن أسئلة فلسطين الواقعية أكثر راهنية، وإلحاحاً، وقسوة، لأنها الأكثر اشتباكاً مع العدو، في حين أنّ فلسطين النظرية تملك ترف البعد والتأمل. على مستوى الكتابة الإبداعية، فالتحدي الذي يواجه الكاتب الفلسطيني هو أن يشعر أنه يمتلك حرية أن يسرد فلسطينه هو، كما يراها هو، حتى لو كان ذلك مخالفاً للسائد الفلسطيني. لا يجب أن يكون هناك هوية فلسطينية واحدة في الكتابة، ولا شخصيات متكررة نمطية، حتى لو كانت إيجابية على المستوى الثوري أو الأخلاقي.

يواجه الفلسطينيّ اليوم احتلالات كثيرة: الهوية الواحدة التي تشعّبت إلى هويات رغماً عنها- الهوية اللاجئة، الهوية المجتزأة جغرافياً، الهوية الحديّة على خط التماس داخل حدود 48، هويات صغيرة تحولت إلى كيانات إشكالية. كيف برأيك على الأدب (في الآليات والرؤية والقطيعة مع الماضي ومواجهة المستقبل ومساءلة الراهن) أن يواجه تحدّي هذه الهويات «الما بعد حداثية» الشكل والصياغة إن جاز التعبير؟
ــــ هو يواجهه أصلاً. الأدب الفلسطيني منذ النكبة محاولة مستمرة في البحث عن شكل ما داخل الأدب للمقولات الفلسطينية الكبرى. درويش إجابة، حبيبي إجابة، كنفاني إجابة، طوقان، جبرا، والأجيال اللاحقة كذلك. الأدب الفلسطيني لم يتطور تطوراً طبيعياً كالآداب العربية الأخرى، بل فرض عليه منذ البداية أن يعيش في أزمة، وهذه الأزمة أسهمت في غناه بشكل هائل. ليس هناك تجربة فلسطينية لم تتأثر بالاحتلالات التي أشرت إليها، وبالتالي فأي محاولة فلسطينية في الكتابة هي محاولة لتقديم إجابة، حتى حين لا تكون هناك إجابة. غياب الإجابة إجابة أيضاً.
في ما يتعلق بالشكل، أنا لست مع تفضيل شكل على حساب شكل آخر. لا أؤمن مثلاً بضرورة تشظّي السرد كي يُناسب تشظي الواقع الفلسطيني. إذا امتلك الفلسطيني موهبة كتابة رواية بالطريقة التقليدية وشعر أنها الأنسب لمقاربة رؤيته فليكتبها، وعلى القرّاء أن يقيموا الناتج. ربما نقول إن الحالة الفلسطينية تسلّم نفسها للسرديات غير المكتملة، المبعثرة، غير الخطية، حيث لا مركز، ولا عالم مكتمل يحكيه راوٍ عليم. لكن فرض هذه الرؤية بوصفها الطريقة الوحيدة للسردية الفلسطينية هي بحد ذاتها نقض للرؤية ذاتها، إذ كيف تحتفل بالتشظي وتحوّله إلى منهج سائد معاً؟

لك ذاكرات متعددة. حدّثنا عن نوع الذاكرة التي تكتب من خلالها عن فلسطين وخصوصيتها في تناول الخطاب النكبويّ ــ التعبويّ في الأدب. في روايتك «قابض الرمل»، شكّلت الذاكرة وأشكال التعامل معها (في موقف العجوز، الابن والحفيد) مغايرة ومنزاحة وصدامية. الذاكرة تغدو سلاحاً تحارب فيه الهويّات الواحدة خطابها.
ـــــ على المستوى الشخصي فذاكرتي الفلسطينية، كأغلب فلسطينيّي المهجر، شفاهية من الأجداد والآباء، ومرئية من الأفلام الوثائقية وأشرطة الأخبار، لكني رأيت فلسطين رأي العين أيضاً، وهذا أضاف أبعاداً أخرى لتجربتي الفلسطينية. على المستوى الإبداعي، فأنا أحاول تقديم خطاب مناهض لروايات الذاكرة التي شاعت فلسطينياً في العقود الأخيرة. رواية الذاكرة هي بنت الهزيمة في الإبداع الفلسطيني، والأدب الفلسطيني في الستينيات والسبعينيات أيام ذروة المقاومة، لم يكن معنياً كثيراً بذاكرة النكبة. في وقتنا الحاضر، حين أصبح الواقع بائساً والمستقبل غائماً، لم يبقَ لكثير من الكتّاب سوى العودة للذاكرة كي يبنوا عبرها عوالمهم السردية. هناك فرق بين الذاكرة الفلسطينية كحقيقة، وبين الاعتماد على الذاكرة في الأعمال الأدبية. أخشى أن تصبح الأعمال الفلسطينية استنساخاً لبعضها: مجرد محاولات وثائقية لتسجيل الذاكرة عبر اختراع شخصيات وهمية وأحداث مفتعلة لا تفعل سوى التذكر. الخطاب المنشغل بالذاكرة يفترض أنّ الذاكرة وسيلة لإثبات الحق الفلسطيني. قد يكون هذا صحيحاً أحياناً، لكن الحالة الفلسطينية اليوم تستلزم رؤى لتخيّل مستقبل ما، أو نقد واقع ما، أكثر من أن تكون مجرد تسجيل للذكريات. الانشغال بالذكريات ينشأ بعد الهزيمة المطلقة، حين لا يبقى لنا سواها، أو الانتصار المطلق، حين نرغب بتشكيل السرديات. نحن لم ننهزم تماماً، ولم ننتصر تماماً. لا وقت لكثير من التذكر في حالتنا، مع ما يستلزمه ذلك من تكرار صورة الضحية، واستدعاء الطرف الآخر لسرديّاته الهولوكوستية، فتتحول فلسطين من صراع استعماري إلى صراع بين ذاكرتَين، وهذا تزييف للقضية.