تعرّفت إلى مظفّر عام 1969، بعد خروجه من معتقل «نقرة السلمان» الصحراوي الذي ارتبط بتاريخ الحركة السياسية وبشكل أساس اليساري منها طيلة عشرات السنين إلى حين إغلاقه قبل سنوات. سمعت عنه الكثير من الفنان حافظ الدروبي حيث كان أحد الناشطين في استوديو كلية الآداب، وحيث ظلّ الدروبي مشرفاً عليه لسنوات طويلة. كانت قصيدته «للريل وحمد» قد بدأت بالتداول بين المثقفين ومحبي الشعر، وبعد أشهر من تعارفنا، طلب مني تصميم غلاف ورسوم لقصائده بغية نشر المجموعة في بيروت، كان ذلك أول ديوان يصدر له وأشرف عليه الصديق المشترك ابراهيم الحريري.

منذ معرضي الأول عام 1964، شكّل الشعر مصدراً لأعمالي في البداية، وبحكم دراستي للآثار كانت اختياراتي من الأدب العراقي القديم وخاصة الأسطوري منه إلى جانب نصوص أخرى كالحلاج ونشيد الأنشاد. كان طلب مظفر ليس بالمستطاع رفضه، ليس بحكم الصداقة وإنما بالتحدّي الذي وضعني فيه: نصوص شعبية تعكس الوجدان الغني بالحب وروح التحدّي السياسي، نصوص تقدّم مناخات ريفية مضادة للمدينة، إلّا أنّها بحكم لغتها الجديدة وما فيها من مخيّلة تجمع بين الرسم والموسيقى لتحوّل كلمات لم يحلم البغدادي أن تكون ضمن قاموسه الثقافي. من هنا بدت لي المهمة أبعد من إنجاز رسوم لنص شعري، فقد أغرقتني قصائده وأنا أقرؤها للمرة الأولى في عوالم غاية في التنوع، مخلفة مزيجاً استثنائياً لروح تدمغ كلّ مجالات الحياة. منذ رسومي لذلك الديوان، ظلّ شغفي بنصّه الشعري، خصوصاً بتلك القصائد التي ترتبط بتاريخ العراق وتحدّياته، أبرزها قصيدة «حسن الشموس» التي سمعتها منه مغناة في سنوات تعارفنا الأولى والتي ظلّت معي، أسمعها بين الحين والآخر برغم كلّ تلك السنوات التي مرّت. في كلّ ما رسمته لأعمال مظفر، ظلت حريتي تنحاز لسماع القصيدة لا لقراءتها، السماع لقرابته الروحية للموسيقى، يمنح المخيلة بعداً وفضاءً يبعد شكلية الرسم إلى جمالية تحفر مجراها في عمق النصّ، تجعله حميمياً، مبهراً من دون أن يفرض نفسه على حواسنا، إن مهمّة التعامل مع النصّ الشعري مهمّة تحدّدها في الغالب تقنيات الرسم.
فرق بين مخيلة اللغة وبين أدواته، بحكم تبادل العلاقة بين الورق والأحبار، بين سطح ورقة الديوان المطبوع والتي هي نتاج تقنيّ له حساباته المعروفة وبين سطح المخطوطة، حيث يكون الورق مصنّعاً يدوياً وبحسابات تحتمل الاجتهاد والإضافة. النص المسموع أو المقروء كلاهما ذو مديات متحركة، في الرسم يتجمّد إلّا إذا حملته الوسائط التقنية الجديدة. هذه التعريفات جعلتني أكثر ميلاً لإنجاز ما أسمّيه بالمخطوطة الشعرية، نسخه فريدة تحتمل التنوع والذهاب إلى فضاءات لا تتحدّد إلّا بقدرة الفنان على تجاوز نفسه.
في آخر ليلة له في بغداد قبيل مغادرته العراق، اجتمعنا في شقة الشاعر صادق الصائغ، يوسف الصائغ، ومحمد عارف وأنا، يوم قرّر مظفر المغادرة بعد إطلاق سراحه من توقيف قصير. وفي تلك الليلة، برغم غناء مظفر لبعض من قصائده وخاصّة رائعته «حسن الشموس» التي أخذتنا إلى انقلاب 1963 بكلّ تداعياته، كان المناخ حزيناً. ولكي يغطّي يوسف بكاءه لفراق مظفر، هذا الشاعر المشاكس الذي لا يحلو له في كل جلسة من جلساتنا إلا واستهدف أحد الحضور، قرأ قصيدته المهداة إلى مظفر والتي كتبها في معتقل نقرة السلمان. كان ردّ مظفر قراءة مقاطع من قصيدة ما زالت معي، أعتبرها نشيداً داخلياً لكلّ من أُجبر على مغادرة العراق لسبب ما ولكل القادمين الجدد من عراق غارق بقسوة القتل اليومي، بالمفخّخات وسرايا الذبح الوحشي: «غرّب نجمتك ما يلوكله فلك/ غوّب وان لاكيت سفينة ليل بجّاها الغُرب/خاويها يا ابن الناس ضيعوك وضيعوها هلك». كم من المبدعين يا ترى من لم تتلاءم نجمته وسماء العراق بزرقتها المقدسة ليحمل روحه وسنوات عراقه الجميل.

* تشكيليّ عراقي