لا يتعامل فيشر في «المحاضرات الأخيرة» مع إمكانات المساواة التي تعد بها التكنولوجيا كخصم، بل كأداة محمّلة بوعود تحقق نوعاً من الديمقراطية الراديكالية، والوفرة في الإنتاج الذي لا يعتمد على العمل الإنساني، وبالتالي منح البشر أوقاتاً لممارسة الحرية المحض بدون ذلك الرعب الساكن فينا من الغد. يبني فيشر لطلابه منصّة من «براكسيس: جدل النظريّة والممارسة» فكريّ يبدأ من أعمال ماركس ولا ينتهي عندها، مستوعباً فيها تجارب الميّتين ممن حاولوا أخذ الماركسيّة إلى اتجاهات أبعد (هيربرت ماركوزه، جورج لوكاش...)، كما تراث منظّرات المشروع اليساري النسوي في الستينات (نانسي هارتسوغ، إلين ويليس، ..). ومن الجليّ أنّه كان لا يريد تذكير تلاميذه بتلك التجارب الطوباويّة التي انقضت بقدر ما أراد إيقاظ وعيهم النقدي بالطرق العديدة التي يمكن فيها تحديد العدو المتواري عن الأنظار: إمبريالية عرقية، وبطريركية جندرية، وجشع لا يرتوي، وطاقة لا متناهية لسفك الدماء وإلغاء الآخر، وجميع العلل الأخرى وتمثلاتها كاليسار المهادن ومهرّجي التروتسكيّة والهبييين الفوضويين الذين تتعمّد الإمبراطورية تصعيدهم كبديل عن حركة عمّالية حقيقيّة تنتج مثقفيها، لكن ذلك بحث آخر. يستدعي فيشر أيضاً لتلامذته الكتابات المُربكة و«الشريرة» لجان فرانسوا ليوتار المتخمة بالاقتراحات العدمية بأنّ العمّال يستمرئون حالة الاغتراب التي تغرقهم بها الرأسمالية، بحكم تكوينها، وأنهم في الواقع لا يمكنهم العيش ولا حتى تخيّل البقاء خارج منظومة الاستغلال، ويستمتعون بالاقتصاد الليبيدينالي (المتعلق بالرغبات) الذي يخلق ويوظّف - ويحيّد عند الحاجة – أشواق البشر الوجودية، ويحوّلها إلى سلع للمتاجرة وتعظيم الربح. ومن جدل فيشر وتلامذته مع الفكر «الليوتاري»، يتم تفكيك ذلك الغياب المؤسف لكل ما هو «خارج الرأسماليّة»، لا سيّما في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية وتعاظم هيمنة الإمبراطوريّة الأميركية بعد تلاشي الإمبراطوريات القديمة وخواء ما تبقى من بعض التجارب الاشتراكيّة والتغييب القسري لبعضها الآخر، وبالتالي تقلّص هامش «المقاومة» ولعنة التشرّد التي أصابت المقاومين.
لا يقع فيشر في فخ ثنائيّات التناقض (أبيض/ أسود) برفض الرأسمالية وإلغاء منجزاتها المادية، فيستفزّ تلامذته للبحث في تلك الأشياء التي يمكن، ونريد في الوقت عينه، الاحتفاظ بها لمرحلة ما بعد الرأسمالية. لكن العدد القليل من المحاضرات (الأخيرة) التي ألقاها فيشر يحرمنا من استشفاف إلى أين كانت تلك الاستفزازات ستنتهي.
انتحاره فعل تمسّك بالحياة وحرية فردية مطلقة، وتمرّد دائم في وجه كل الإمبراطوريات
بفضل خطّة المنهج الدراسي للمادة التي ضمّها كوهون لنصوص المحاضرات، فإن لدينا بعض القرائن حول المسار التقريبي الذي وضعه فيشر لرحلة مقرر استنطاق شكل العالم ورغبات البشر في «ما بعد الرأسماليّة» حيث ثلاثة مسارات متوازية: أولها الكشف عن طرق لاقتلاع الأفكار السياسية للثقافة المضادة في الستينيات بشكل شامل (مع التركيز على تجربة المخابرات الأميركية للإطاحة بحكومة سلفادور الليندي الديمقراطية الاشتراكية في تشيلي عام 1973)، وثانيها تنفيذ تحليل معمّق (من خلال أعمال ستيوارت هول وجودي دين وغيرهما) لتحوّلات العمل نفسه بعد ذبول الكلاسيكية الفورديّة (نسبة إلى منهجيّة شركة «فورد» الأميركية في التصنيع الكثيف عبر خطوط الانتاج) وظهور اقتصاد المعلومات، وأخيراً تحليق موسع في فضاءات سياسة ما بعد العمل، ونزعات التحرر من عبوديّة المصنع كما استكشفت في سبعينات القرن الماضي. من خلال المادة الجدليّة المتطلبة التي كان يدرّسها، يبدو أنّ فيشر كان يرمي إلى بلوغ استنتاجات بشأن إمكانات كامنة لـ «تثوير» بعض معطيات الرأسماليّة المكرّسة بالكامل سلعاً من أجل الربح، من استكشاف الفضاء إلى مطارحات غرف النوم، وإعادة إطلاقها كامتدادات (ديمقراطية) لأحلامنا بالتحرر من الاستغلال، وبدلاً من النكوص عن التقدّم المادي المتحقق إعادة جدولته وتوجيهه لتذويب الانفصامات بين العمل والحياة، وبين الواقع والفن، وبين حقارة التراب ورفعة الخيال.
لم يرد فيشر يوماً التحوّل إلى صنم يُعبد، وكان يمقت تلك القداسة التي يتعامل بها كثيرون مع نصوص الميتين، بمن فيهم مفكرو اليسار قبل غيرهم، كأنها منزّلة ومنزّهة وسرمديّة. ولذلك فنحن المتشردين في صحراء الواقع الرأسمالي، يرضينا أنّ نبي ثقافتنا المضادة ومُلهمنا للمقاومة لم يسمح لنفسه بترك نص نهائيّ متماسك يتضمن أجوبة جاهزة. لقد اكتفى بأن طرح علينا الأسئلة، وقدّم لنا الأمثلة عن وعود العناد، وتركنا لنقوم بما تفرضه علينا إنسانيتنا: أن نطلق لخيالنا العنان وننهض لنقاتل من أجل الحلم الذي حلّق إليه ذلك الخيال، ولا نقبل حالة التلطي في برزخ رمادي قاتم بين الوجود والعدم. أما هو شخصياً، فقد اختار ــ عندما عزّ الوجود الحرّ الكريم ــ العدم كفعل تمسّك بالحياة وحرية فردية مطلقة، وتمرّد دائم في وجه كل الإمبراطوريات الفاسدة، ورفض مطلق للعيش حيث تستلقي الزومبيّات البائسة مكتفية باستهلاك ما صنع لها من رغبات.