هو العالم الذي نعيش فيه بقلق إزاء مكانتنا لو كان في جيبنا قرش أو مليار دولار، فلا فرق بين الاثنين، ولأنها الأسئلة ذاتها- ولو جاءت بغير قالب- ستظلّ تراودنا. مثلاً، قد يتساءل شاب عشريني كل يوم قبل أن يغمض عينيه «بم أخطأت؟ لماذا لم أستطع أن أتوظف؟ أن أتزوج؟ أن أنال المكانة التي أستحق؟! أو أنني لا أستحق!». في كتابه «قلق السعي إلى المكانة الاجتماعية» (2004) الذي صدرت نسخة عربية جديدة منه عن «دار التنوير»، يتحدث المفكر الفرنسي السويسري آلان دو بوتون عن لعنة ملتصقة بالإنسان الحديث، هي قلقه في السعي للمكانة الاجتماعية بمعاييرها الجديدة، فمنح «القيمة الرفيعة لفئة دون أخرى ليس جديداً في المجتمعات». سبق أن حظي كل من المحاربين، الكهنة، المرأة الولود، والصيادون بهذا الشرف، ولكن منذ العام 1776 أصبح المال هو المعيار الأساسي في العالم الغربي. لكي يزاد الطين بلة، ارتبط المال بالكفاءة، ليصبح ما في جيبك محدداً لما أنت عليه.
بحسب الكتاب، يعرَّف قلق المكانة على أنّه «قلق خبيث يساورنا خشية فشلنا في مجاراة قيم النجاح التي وضعها مجتمعنا، فيتم تجريدنا نتيجة لهذا الفشل من شرف المنزلة والاعتبار». يثبط قلق المكانة الشخص عن المضي قدماً في حياته، فيجعله في دوامة مفرغة من المقارنات، كره الذات، الشعور بالدونية والانسحاق تجاه ما يملكه الآخرون، لأنه ببساطة مؤمن بأن ما يستحقه أرفع منزلة مما في يديه. هو يستحق الهاتف باهظ الثمن الذي صدر منذ يومين، يستحق منزلاً فخماً في حي ثري، يستحق أن يدور العالم، يستحق أن يحظى بكرسي في الدولة... قد تسأل: وما العيب في ذلك؟ في المفهوم الديموقراطي الجديد، لا عيب فيه، فالمساواة (والمساواة وحدها) هي الأساس في المجتمع، لكن الحقيقة أنّ فئة ضئيلة فقط قادرة على تحقيق هذه الرغبات، أما الباقي فهو وجبة لرغباته، تأكله على مهل، ومن ثم ترميه للعجز واحتقار الذات. يقول المنظّر السياسي والمؤرخ الفرنسي ألكسي دو توكفيل في «كتابه الديموقراطية في أميركا»: «أي رجل طموح قد يعتقد أنه من السهل أن ينطلق في مسيرة مهنية عظيمة، لكن هذا ليس إلا وهماً سرعان ما تنقضه التجربة». لذلك يلمح بوتون إلى أن الخلاص يكمن في تطهير النفس من الرغبات، ويدعم رأيه بفكرة جان جاك روسو «إذا أردت أن تجعل إنساناً ثرياً، فإما أن تعطيه المزيد من المال، أو تحدّ من رغباته». لكن، هنا تولد جملة من الأسئلة البديهية التي يجب أن نطرحها: لو أفرغنا الإنسان من طموحه، ما هو شكل القلق البديل الذي سنحصل عليه؟ هل سيلبس هذا الإنسان المفرغ من الطموح زي الفقير «الزاهد» الكيلشيه في الروايات والأفلام التي كبرنا عليها؟ وهل هناك فعلاً فقير من هذا النوع، يأكل خبزاً جافاً من دون أن يرغب في تذوق شيء أشهى؟ لو كانت هذه الحالة هي الحالة «المريحة» للفقراء فعلاً، فلماذا قامت ثورات العمال والفلاحين؟
في مضمونه، ينقسم الكتاب إلى قسمين: الأسباب التي أدت إلى تشكّل قلق السعي إلى المكانة، والحلول التي من شأنها تخليص الانسان منه. يقدم بوتون هنا عرضاً مفصلاً يتطرق فيه إلى المنحى العاطفي والسيكولوجي للموضوع، ويضمّن سرداً تاريخياً طريفاً عن الأحداث الاجتماعية والسياسية في الغرب التي كان لها يد في تحريكه. لكنّ آراءه لا تأتي بنفس الوضوح دائماً، فتارة يكون النص جافاً، يشعرك بأنك تقرأ قطعة بحثية مملة، تتركك تفكر في ما يحاول بوتون قوله تحديداً أثناء عرض زوايا فكرته، وتارة يكون صادماً ومباشراً، لكن في كل الأحوال لا يمكن إنكار براعته في دعم أفكاره عن طريق الاستشهاد بنظريات فلاسفة ومفكرين. يرى بوتون أن الشكل الديموقراطي الحالي جعل الشعوب تعاني من أزمات نفسية لم يسبق أن عانت منها المجتمعات الارستقراطية من قبل، لأنّ الديموقراطية عززت من رغبات الناس، فجعلتهم في الأساس قادرين على أن يحظوا بكل شيء، عكس المجتمعات الارستقراطية التي كانت فيها رغبات الفرد محدودة. لا يأتي طرح الحلول في القسم الثاني بالزخم والاقناع اللذين تم بهما عرض الأسباب كأن الكتاب أنهي على عجل، كأن بوتون كان مقتنعاً بحتمية هذا القلق الجماعي، فإذا كان النظام العالمي أحد أهم الأسباب التي تحركه، فلا أمل بتغيير هذا النظام، ولذلك أعطى بوتون حلولًا فردية كمحاربته بالبوهيمية والفن، يعني هو حل شوبنهاور التقليدي، الرياضات الروحية في وجه الرأسمالية. في كل الأحوال، لطالما انقسم النقّاد تجاه أعمال دو بوتون الذي وصفته صحيفة الـ «غارديان» مرةً بأنّه «فيلسوف Pop» يقدّم اسئلة وأجوبة بديهية.