في الرابع من آب (أغسطس) 2020 هزّ تفجير المرفأ بيروت وضواحيها، واهتزّ معه العالم، أمام مشهد دموي دمرّ ما بقي من حياة في العاصمة اللبنانية، وأزهق ما يفوق مئتيّ شهيد، إضافة إلى آلاف الجرحى والمعوقين. عام مرّ ولغاية اليوم، لم يُسق أحد من المسؤولين إلى العدالة. القنوات المحلّية رأت في هذه الذكرى فرصةً سانحةً، للاستثمار السياسي والإعلامي واستغلال هذه الفاجعة لتحقيق مآربها. هكذا، كان الشعار الذي رفعته lbci آنذاك «ما بعد تفجير آب ليس كما قبله»، عنواناً يمكن إسقاطه حرفياً على ما حصل في المشهد الإعلامي المحلي الذي أعلن وقتها «انقلاباً» على الفترة التي سبقت المأساة، وشحذ بالتالي أدواته للسير في قطار الاستثمار، وتنفيذ الأجندات السياسية. لعلّ البارز العام الماضي هو محاولة تطبيق سيناريو اغتيال رفيق الحريري عام 2005، عبر اتّهام النظام السوري أولاً وبعدها «حزب الله» بالضلوع في هذه الجريمة وبناء فرضيات حول تنفيذ هذه الجريمة.
لعب برنامج «صار الوقت» دوراً محورياً بعيد تفجير المرفأ واستثمر الحدث سياسياً

وكان للمصادفة أن خرجت «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» في الشهر عينه للانفجار لتعلن اتّهام سليم عياش في الجريمة، محطّمة بذلك آمالاً عُقدت على قرارات مسيّسة من شأنها أن تُشعل الشارع بشكل أكبر، بدأ الإعداد لها بعد أيام من تفجير المرفأ، واتهام «حزب الله» بالضلوع في هذه الجريمة، عبر تكثيف هذا التصويب في النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية السياسية، مرة عبر الاتّكاء إلى ما تورده الصحافة المعروفة المصادر الاستخباراتية، مثل «دير شبيغل» و«ديب فليت» الألمانيتين، ومرة أخرى عبر نقل رابط «ويكليكس» عن «ناشطين» في مواقع التواصل الاجتماعي، يتهمون «حزب الله» بالحصول على شحنة «نيترات الأمونينوم»، في عام 2014. مسار تولّت تسييره mtv التي شكلت وقتها رأس حربة على الحزب، في آب (أغسطس) الماضي، وعملت على ضخّ سرديات سوداء من دون أيّ أدلة، وحتى من دون أن تلقى أي مساءلة قانونية كونها ترمي الاتهامات بهذا الحجم جزافاً، والدماء لم تجف بعد على الإسفلت كما يقال. في موازاة أجندة mtv المسمومة التي سارعت على الفور إلى المطالبة بتحقيق دولي، وأسندت هذه العبارة إلى يسار شاشتها، أعيد تعويم قوى سياسية منسيّة، أسهمت انتفاضة «17 تشرين» (2019) في كتم أصواتها حتى إعلامياً، تماشياً مع صرخات المتظاهرين المطالبين بتغيير الطبقة السياسية، وسير الإعلام المحلي بهذه الخطوة في محاولة لإقناع هؤلاء بأن القنوات تقف إلى جانبهم وتتبنّى مطالبهم. على سبيل المثال، عوّم كل من حزبيّ «القوات» و«الكتائب» اللذين استغلا لحظة تفجير المرفأ، مع غيرهما من الشخصيات والنواب الذين قدموا استقالاتهم وقتها، ليظهروا بمظهر المعارضة والمساندين لأهالي الضحايا. هذه المهمة، تولّتها أيضاً قناة «المرّ»، التي أعادت تعويم هؤلاء وتظهيرهم على شاشتها، مع لعب برنامج «صار الوقت» دوراً محورياً وتعمّد المحطة بثّه يومين في الأسبوع، تكثيفاً للمضمون السياسي والاتّهامي العالي، وسعياً نحو إحداث توتر واضح في البلاد، وتمرير رسائل اتّهامية مباشرة إلى «حزب الله»، وتصفية الحسابات مع كلٍّ من رئيسَي الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة المستقيل حسّان دياب. نأتي على ضفاف قناة lbci، التي قررت بعد عشرة أيام على وقوع جريمة 14 آب، أن تُقاطع السياسيين على شاشتها، تماشياً مع ركوب موجة أوجاع أهالي الضحايا. إذ أعلنت وقتها في بيان صحافي، بأن «ما بعد 4 آب ليس كما قبله»، لكنها طبعاً، تناست بأنها فتحت هواءها قبلاً للمتورّطين في التفجير، وعلى رأسهم مدير عام الجمارك بدري ضاهر، لتلتحق بها mtv، وتعلن الموقف عينه، لكن سرعان ما أوقعت الأخيرة نفسها في الفخ، وبدأت بنقل استنسابي تجلّى في بث كلمة رئيس حزب «القوات» سمير جعجع، وكلمة النائب سامي الجميل التأبينية للأمين العام لحزب «الكتائب» الذي قضى في الانفجار نزار نجاريان، على غرار ما قامت به lbci... لنستخلص من كل هذه المشهدية بأن المقصود من كل هذه الحركة الاستعراضية «حزب الله» وتحديداً كلمة أمينه العام السيد حسن نصر الله، التي حُجبت لمرات عدة، وحتى لأيامنا هذه، عن هذه الشاشات. ولا يمكن إغفال يوم الثامن من آب (أغسطس) الماضي، لدى اقتحام متظاهرين وزارات الاقتصاد والبيئة والخارجية وتعليق لافتة ضخمة على مبنى الأخيرة مدّون عليها: «بيروت مدينة منزوعة السلاح»، من دون معرفة سياقها، وتعليق المشانق بعدها في ساحة «الشهداء» ورفع صور شخصيات حزبية وسياسية، على رأسها نصر الله، ما أثار بالطبع غضباً عارماً وكان بإمكانه أن يُحدث اشتباكاً داخلياً. وسط ذلك، لعبت وسائل الإعلام اللبنانية دور شاهد الزور، ولم تسأل هذه التحركات عن مغزاها، وعمدت إلى دعمها وتغطيتها، فبدا المشهد الميداني أمام عين المشاهد منسلخاً تماماً عمّا يقوله المراسلون وقتها. أيضاً، كان لقناة «الجديد» حصة وافرة. إذ سرعان ما اتجهت بنشراتها وبرامجها، إلى التركيز على مسار السفينة «روسوس» التي رست في مرفأ بيروت وكانت تحمل شحنة الأمونيوم، والجهات المسؤولة في المرفأ ومجمل المراسلات التي وصلت إلى المعنيين وإعلامهم بخطورة هذه المواد. نصل في نهاية المطاف إلى ما يشبه الحفلات الاستعراضية التلفزيونية، وتصفية الحسابات الشخصية والسياسية، ثم تبييض صفحات مسؤولين أمنيين استدعاهم القاضي بيطار، وإذ بالمحطة تتولى مهمة نفض أيديهم عما حدث في الرابع من آب!
استخدام ضحايا الانفجار وعوائلهم في لعبة المنافسة والإثارة التلفزيونية


اليوم، وبعد مرور عام على وقوع ثالث أضخم انفجار في العالم، ودخول الإعلام المحلي في موجة استخدام ضحايا الانفجار وعوائلهم في لعبة المنافسة والإثارة التلفزيونية، ما زالت موجة التسييس ومحاولة التأليب مستمرة، خاصة مع خروج صحيفة «لوفيغارو»، الفرنسية باتهام جديد إلى «حزب الله» بتخزين شحنة «الأمونيوم»، لصالح النظام السوري، في سيناريو مكرّر لما حصل عقب اغتيال الحريري. طبعاً، هذه السردية تنقلت على منصات الإعلام المحلي، وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، لنصل إلى قضية رفع الحصانات عن الشخصيات الأمنية والنيابية والوزارية التي طالب المحقق العدلي طارق بيطار باستدعائها، ودخول mtv، من هذه البوابة، لإعادة طرح المطالبة بتحقيق دولي كما فعلت سابقاً. إذ برز في هذا الخصوص، تقرير للمحطة، ينطلق من تعثر رفع الحصانات وتشاور الكتل النيابية في هذا الخصوص، ليدخل إلى طرح لبنان كدولة فاشلة، وإمكانية تدّخل الأمم المتحدة فيه تحت «الفصل السابع». لكن، هنا، بطبيعة الأحوال انحرف التقرير عن تفجير المرفأ، صوب قرارات «مجلس الأمن» وتحديداً المتعلقة بسلاح المقاومة وإمكانية تنفيذها في هذا التدخل!



صوب... حيفا
فتحت كارثة تفجير مرفأ بيروت، شهية بعض القنوات المحلية، على الذهاب أبعد صوب مرفأ «حيفا» المحتل. إذ شكل تدمير المرفأ البيروتي بكل ما يختصره من قوة تجارية واقتصادية للبلاد وعلى الساحل المتوسط، فرصة للدخول إلى ملف المرفأ الفلسطيني، من باب التباكي والتحسّر على ما خسره لبنان جراء هذا التفجير، والإضاءة بالتالي على مرفأ «حيفا» بعيد إبرام الإمارات تحديداً اتفاقيات التطبيع مع العدو الإسرائيلي. إذ طرحت mtv، في آذار (مارس) الماضي، هذه القضية، وأضاءت على «مصير مرفأ بيروت التجاري» عبر استرجاع دوره تاريخياً، وما يمكن أن يشكله اليوم، التطبيع الخليجي الإسرائيلي من فرصة لسرقة هذا الدور، لا سيما مع نية الإمارات فتح خط شحن مباشر مع كيان الاحتلال. ففي تقرير إخباري سابق على المحطة، أعاد إلى الأضواء مرفأ «حيفا»، ومشروع «إسرائيل» بإنشاء سكة حديد عبر أوروبا والمتوسط وصولاً إلى «حيفا» والخليج، في ظل تقلص الدور اللبناني بعد التفجير. قضية عادت وظهرت أخيراً، على شاشة lbci، لكن هذه المرة بنكهة تطبيعية فاقعة، إذ عرضت المحطة تقريراً (نيكول الحجل) في نشرة أخبارها، تحدث عن افتتاح المرفأ الجديد في «حيفا» مطلع أيلول (سبتمبر) المقبل. وأشاد بهذه الخطوة وعدّد أهميتها التجارية. تقرير استغل نكبة مرفأ بيروت عبر التفخيم بإمكانيات العدو الاستثمارية، وأكد بأن المستقبل التجاري بات اليوم في يد «إسرائيل»، فيما بيروت أضحت خارج الخارطة المتوسطية بعد تفجير مرفئها.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا