يُمنَحُ قارئ رواية «على رصيف العمر» (دار ورد) للكاتب والسيناريست حسن سامي يوسف فرصة عيش التجربة الحسّية مراوحاً مكانه، وهكذا يُبدع كاتبها دوماً بتحويل روايته من مجرّد نص أدبي إلى حياةٍ تفيض بالمشاعر، فيضيعُ المتلقّي ويلوذ بالحالة الوصفية والسردية والحوارات، بالإضافة إلى الظروف المكانية والزمانية. وعلى الرغم من هيمنة الأركان نفسها على إصدارات الكاتب خلال فترة الحرب في سوريا، إلا أن العفوية المطلقة في الطرح تجعل القارئ يتوه مجدّداً شوقاً لا رتابة. فالمكنونات نفسها، الحبُّ والندبات، تلازم شخصية المؤلف (الراوي أمجد) الذي يصطحبنا إلى «عتبة الألم» (عنوان رواية له) والموت والمرض، إلى جانب الآفات الاجتماعية والأخلاقية التي سبّبت خراب حياة كثير من السوريين في الداخل والخارج.
يستهل الكاتب الرواية برسالةٍ إلى صديقته سيدرا ويتابع حتى النهاية. تحمل الرسالة في طيّاتها معاناته الشخصية، وتداعيات الحرب على حياته وعلى حياة من حوله، يتكلّم عن حبه الأبدي، الفتاة الصغيرة وداد، وعن زواجه الثاني الذي لم يخلُ من المأساة، فانتهى بموت زوجته سلمى. كما يتحدث عن رفاقه، سامر، سعيد، أيمن، وخلدون، مسترجعاً طفولته مع الفقر، واصفاً قبوله بالعار ومشدداً على فكرته كلما استرجع محطات الماضي في سياق الرواية.
يسلك الكاتب منهجاً في الكتابة، يتسم بالنقل الحي للواقعة أو الحادثة أو المشهد. يجعلنا نستحضر قول ماركيز بأن الرواية الجيدة ما هي إلا نقل شعري للواقع، فكما كان الليل مع هناء مفعماً بالإثراء والتشويق، تاركاً أثراً لدى القارئ العربي، كان المشهد مع وداد كذلك على رصيف العمر في دمشق القديمة، المقهى، بكداش والمحيط هناك.
يصف الكاتب وداد بدايةً بالفتاة الصغيرة والمتسرّعة والجريئة التي خطفت قلبه، لتصبح بعد ذلك زوجته، ثم تتركه بعد سنوات قليلة من الزواج، يعيش ندوب رحيلها جرّاء سفرها للعمل خارج سوريا، فيسرد قصته وهو في الثالثة والأربعين من عمره، بين صورتين، وصوتين، وحقبتين، بين اليوم والأمس. يترك القارئ يتعرف إليه عبر وصف حالته بطريقةٍ بليغة، فيقول مجاهراً بألمه: إنني رجل الألم. ويعطي بذلك للقارئ إضافات معرفية من دون أن يوقعه في الملل، ليظهر حالة أمجد ومأساته، فيطرح إشكاليات عدة عن الألم، فيتساءل: أي الوجعين أشد وطأةً على الإنسان؟ وجع الروح أم وجع البدن؟
تمتد الرواية بشريان أساسي عبر دعم الأبطال بحالات نفسية وسيكولوجية واضحة، عبر إظهار الأجواء البيتية، العاطفية، والعلاقات مع المقرّبين في الأحياء. والأهم أن طبائع الشخصيات ظهرت بعفوية وتلقائية بعيداً عن الافتعال، ما يشد القارئ ويجذبه للمتابعة، ليترك الحكم إلى النهاية، عبر تسليط الاهتمام على الجزء الصوتي الذي يُشعر المتلقي بأنه متنصّت على ما يجري في الرواية وبهذا لا يشعر بأنه دخيل عليها.
في السياق السردي، يُجري الكاتب إسقاطاً ذاتياً حول كتابة الرواية وكتابة السيناريو والتناقض بينهما. إشكالية أبدية شغلت الكتّاب في العالم العربي الذين يُعلون قيمة الرواية والمنتمين إليها على السيناريو والأعمال التلفزيونية. لكنّ المشكلة أنّ كتابة الرواية لا تمنحهم الاكتفاء المادي، بخلاف الكتابة التلفزيونية التي يضطر كثيرون لاختيارها وظيفة لهم من أجل تأمين حياة كريمة.
أما عن خلود الرواية، فهناك معضلة مهمة باعتبار أن المناجاة أو الحوارات الناجحة ترسخ في أذهان القراء وغير القراء، فحتى الذين لم يقرأوا رواية حسن سامي يوسف «عتبة الألم»، لديهم إلمام بمناجاة عروة، «أنتِ ذبحة القلبِ يا هناء» أو سؤاله «ماذا زرعنا لنحصد كل هذا الخراب؟»، فكيف إذا تحوّلت الرواية الورقية إلى صورة بصرية تتجلّى في مسلسل درامي، والأمر نفسه هنا، في ما يخص رواية «على رصيف العمر»، فالكاتب حسن سامي يوسف بشَّر متابعيه بأنّه بدأ العمل على تحويل الرواية إلى مسلسلٍ تلفزيوني.
نرى في النهاية أن الهجرة هي السبيل، بسبب الوحدة التي بات يعانيها بعد موت أمه، ورحيل سلمى، وانتحار وداد في الغربة، وإعدام سامر، وأيضاً القسوة التي عاشتها المدينة واصفاً إياها بـ «مدينة عريقة وكبيرة، ستة ملايين إنسان أو سبعة، أو ما يزيد، والحياة لا تسري في شرايينها إلا بطيئةً بطيئة». ويتساءل بعد حين: «هل حقاً أن هذه المدينة كانت يوماً قلب العالم؟» لكنه سرعان ما يعود إلى وصفها بالمدينة العبقرية في حل الأزمات التي تصنعها، مؤكداً على حبّه لها حتى في خرابها الأخير، فهو اختار الهجرة من دون أن يبيع أيّاً من أملاكه، لتظهر في الختام ندبة الحرب وآثارها النفسية والدعوة للتصالح مع الزمن، وردم الفجوة التي حفرتها سنوات الحرب في الروح.
«على رصيف العمر» هي استكمالٌ لكثير من الألم، كثير من الندبات ولعنات القدر. لكنها في الواقع كلمات، تترك لنا تساؤلات كثيرة ممزوجة بالترقب والوجع، متى تنتهي الحرب؟ متى ينتهي الألم؟ من يكافح الظلم والفساد؟ ومتى يتصالح الحب مع القدر؟