يروّج العالم، الذي تستحوذ عليه آلة الإنتاج الرأسمالي، ومن موقع الضامن لتحقيق السعادة، لجملة من المواد كسلع معدة للاستهلاك، تبدأ بالسلع التقليدية، كالغذاء وإطار السيارة مثلاً، وتصل إلى تلك التي تسد حاجات وهمية تُقدَّم في قالب ثقافي كاحتفالات فالنتاين وأعياد هالويين. هذا أننا عندما نقرأ أنماط الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية، يظهر أن الدفع نحو الاستهلاك، المهيئ لمراكمة الثروات، يكوّن الغاية الأخيرة لمشغّلي عجلة العالم. إلا أن قراءة خارجة عن السياقات المألوفة التي تصوّر هذا الفعل كواجب محتّم ينبغي ممارسته بغية رسم الذات، تُظهر وبصورة جليّة، أن دفع الإنسان للاستهلاك الذي ينمّي ثروات القلّة، إنّما يكون دائماً غاية من رتبة ثانية. إنه لا يعدو كونه أداة من مجمل العدّة المنهجيّة التي تعمد إلى خلق تحولات دلالية في الفكر واللغة، وإلى خلق جدران وهمية تزرعها في عقولنا بهدف التّعمية، عن تناول خلفيات ودوافع ممارستها السياسية تناولاً تاريخياً. فالتلهي بالاستهلاك يزامل حتمية الالتهاء عن الخلفية السياسية التي تحتضنه، والتي من الممكن أن يُفضي الوعي بها إلى صوغ مناهج جماعيّة تؤطّر صراعاً واعياً يُقرّب البشرية من العدالة الاجتماعية. هذا الإغفال في التأمل في ضرورة تخفي أدوات إنتاج الإيديولوجيا وراء رسائله، يغطي فكرة أن الغاية الأخيرة في الاستهلاك لا تكمن في ذاته، ولا يمكن أن تكون كذلك، بل في قدرته على الحؤول دون الالتفات لحقيقة الموقع الطبقي لكلّ منّا، من خلال تغليف القضايا المهمة بطلاء يصعب قشطُه، وحرف الألفاظ المركزية عن مساراتها التي تُكسبُها معانيها العملية لأجل طمسِها وتفتيتها. وهكذا، كان لزاماً على المثقف، بما هو العنصر الأهم في الانعطافات التاريخية أن يُخلخل المفاهيم التي تعرضت معانيها لتزييفٍ وتجويف، أن يعيد تشكيل جوهرها ويزُجّها في سياقاتها الصحيحة. ولأن احتضان مفهوم التاريخ وحدوده يُعد الحجر الأساسي للشروع في تهيأة العدة للتغيير، نجد غرامشي حاداً في مواجهة الممارسات التي من شأنها تعرية هذا المفهوم. حين كان صحافياً، قبل دخوله إلى الزنزانة التي تشبه إلى حدّ بعيد غرفنا المكوّنة من إسمنتٍ وحديد، والتي بتنا سجناءها بفعل عدوّين أحدهم فيروس غير مرئي وآخر أكثر خطراً وتهديداً وهي الرأسمالية نفسها، نجد غرامشي يكتب بصرامة، لذمّ احتفالات نهار رأس السنة، وتناولها بعين ناقدة بعيدة كل البعد عن الاجترار المكرور لجوهرية يوم رأس السنة في أعوامنا من جهة كونها سلعة رأسمالية معدة للاستهلاك، تطمس مفهوم التاريخ بما هو سيرورة من الأحداث المتراصّة والمتلاصقة. كتب غرامشي نصه الموسوم بعنوان «أكره يوم رأس السنة» منذ أكثر من مئة عام، من خلق قضبان الكرنفالات والأضواء، إلا أن مضامينه بقيت راهنية، لأن الأضواء ما زالت نفسها والسخط نفسه، والأهم النموذج المهيمن نفسه. تبدأ الهشاشة من وجهة نظر غرامشي، من الفضاء المعرفي الذي يخلقُه كرنفال رأس السنة، حيث يتعامل مع التاريخ بوصفه حلقات يمكن لواحدةٍ منها الفكاك من الأخرى، أي أن التاريخ يصبح متقطعاً، ويصبح عماده وجوهره الانفصال والقطيعة، لأنك تعتقد أنّ ثمة فراغاً كرونولوجياً بين السنة والأخرى، «وينتهي بك المطاف باعتقاد جدّي مفاده أن هنالك فاصلاً بين سنةٍ ما والسنة التي تليها» بتعبير غرامشي، أو أنه يمكن ليوم رأس السنة أن يكون بداية تدفعك في دربٍ جديد كل الجدة، منفصل عن كل ما سبق. والحال أن تقطيع التاريخ إلى لحظاتٍ منفردة، يؤدي إلى القطيعة المعرفية، فهي ملازمة للقطيعة التاريخية التي تجعل مهمة استرجاع الأفكار مستحيلة، فتفرّد اللحظة التاريخية بذاتها يعني عدم الالتفات إلى كونها كهلاً مسنّاً عمره مجموع اللحظات السابقة. وهذا شبيهٌ ببعض التواريخ التي خُيّل للإنسان أنها «شكلت بداياتٍ كانت بمنزلة الجبل الذي تسلقته البشرية فوجدت نفسها في عالم جديد وحياة جديدة» كما يقول غرامشي. وهذا بالنسبة له ما يفرّغ لفظ التاريخ من محتواه ويجعله «عقبة تمنعنا من رؤية أن التاريخ يستمر في الانكشاف على طول خط لا يتغير، من دون توقف مفاجئ». فالتاريخ ليس انفصالاً، بل اتصالٌ دائم، ممتزجٌ بالزمنية وليس على هامشها. ومن جهة أخرى، فإذا كنت ممن يفترض أنه يمكن ليوم رأس السنة أن يشكل مساحة لتقرير المسار المقبل بمجرد الاكتفاء بتفكيك ونقد ممارسات السنة الفائتة وصوغ ما ينبغي أن يبدلها من منظور فرداني، فإن غرامشي يعتبر أن افتراضك هذا ممسوخ من جهتين. الأولى، أن الإرادة والفعل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونا السبيل الوحيد لاقتحام التاريخ وحركته، بل تحتهما على الدوام الطبقات تولد الأفكار التي تنشأ من الموقع الطبقي، ما يعني أنك تختار لنفسك الخضوع لسيرورة تاريخية يديرها آخرون وأن خياراتك لم تنبثق من تقرير واضح لهمومك، التي بدورها لا تنفصل عن جوهر هموم طبقتك. والثانية، فهي أن ممارسة النقد المبني على تعديلاتك الطفيفة، ليست ممارسة فولكلورية مرتبطة حصراً بالأول من كانون الثاني من كل عام. لذلك، كانت رغبة غرامشي تفاؤلية، تضاهي حلم عرّابه الفكري كارل ماركس بتحقيق الفردوس الأرضي، حيث تتمثل بضرورة اعتبار كل يوم من السنة رأس سنة جديدة، نهدم فيه الخرافات ونقوم بمراجعات نقدية لتموضعاتنا، لأن غير ذلك سيكون تحجّراً للفكر وتعطيلاً لإعماله. المهم في نظرة غرامشي إلى موضوع يوم رأس السنة واحتفالاته، أنها تَفرد ممارسة مطويّة، فهي ليست نظرة للظاهر كظاهر، ولا للبيّن كبيّن، بل إن غرامشي يسعى لإماطة اللثام عن المستور، والنفاذ إلى الخبايا حتى لا تخدعه لعبة الطيّ حيث تكون الممارسات زاخرة بالتضمينات المستترة في إعادة إنتاج الهيمنة. لكن غرامشي ليس ولعاً بالتمرد ولا مدمناً عليه، وليس في نصه إحالة للتشاؤم، وعليه فهو يحذر من التواريخ لأن الرأسمالية لا يمكن أن تنمّي قيمة تواريخ يُدخلها حفرها في الرزنامة في حالة تأزم. وحتى، نجد أن غرامشي يعطي قيمة لفكرة التاريخ ويبني عليها أملاً، والمقصود هنا، التواريخ التي تهبنا إياها الاشتراكية، فيكتب في خاتمة نصّه «لهذا السبب أيضا أنتظر الاشتراكية، لأنها على الأقل تهبنا تواريخاً ملكنا، وتلقي في سلّة المهملات تلك التواريخ التي لا تجد صدى في أرواحنا، والتي ينبغي ويتوجّب علينا القبول بها من دون تحفظات كإرث من أسلافنا السخفاء». فتواريخ الاشتراكية لا تنتمي إلى الجماهير العاملة فحسب، وليست مورّثة في قالب إيديولوجي-والإيديولوحيا عند غرامشي هي علم الأفكار والمُتخيل الضروري وهي مختلفة عن صياغة ماركس لها- فيصبح الاحتفاء بالتواريخ في الاشتراكية عرضة للتبكيت والتفكيك على الدوام. وما يجعله كذلك، هو أن ما من تورية في الممارسات، بل وعي عميق بخلفياتها، ودوافعنا التي تحرك نزوعَنا تحتها.
__
*نص بعنوان «أكره يوم رأس السنة» كتبه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في صحيفة «آفانتي» عام 1916.
(نسخة المقال بالترجمة الإنكليزية: https://viewpointmag.com/2015/01/01/i-hate-new-years-day/)