سواء أعجبنا أو لا، سيبقى للفنان موقع خاص ومميز فوق حركة الخط اليومي المباشر للأحداث والحروب وساحات النضال العالمية المتنوعة الانواع والاشكال. أما عن الالتباس الحاصل في موقع الفنان ودورة الفني الخاص الذي قد يحدث وقد لا يحدث كما نتمنى او كما نشتهي، وإذا حدث متفاعلاً مع هذا الحدث او ذاك، بصورة ميكانيكية فورية مباشرة أو بصورة لافورية ولامباشرة، فإن موقع الفنان سيبقى دائماً على مسافة تقترب او تبتعد عن الحدث بما يستدعي له مناخاً ضرورياً مطلاً عليه من زوايا مختلفة ولامتجانسة. يقف كل فنان مُطلاً على الواقع بشكل مختلف عن غيره ومن عُلُو متغيّر يستجلي منه اختلافك هذا . يترصد الفنان ملامح الآتي وهو يتغير عبر رؤيته الفنية التي يستجليها بوحية الفني الخاص، وبما قد لا يراه بها معظم الناس، سواء الثوار بالبندقية او الصحافيين والاعلاميين الثوريين بالصحف والاعلام، أو الطلاب صداماً بالتظاهرات، او العمال والمستضعفين بالنضالات المطلبية لنقابات العمال، أو حتى بقية الفئات في المعتقلات والسجون. هذة المفارقة التي تستدعي فهم موقع الفنان الحقيقي مرتبطاً بالمناخ الفني ستخرج غالباً عن التأطير بالمباشر او بالبيان الحزبي او بأي رؤية تدّعي قدرة التعريف والقبض على ملامحها. ليس الفنان مسؤولاً عن هذا، ولا عن أُطُر هذه العلاقة وغرابة تمايزها! الفنان له ثورته الخاصة المتوازية والمتقاطعة أو المتقطّعة مع الحِراك، وهو في علاقتة بملامح كل حدث من أحداثها المتراكمة، لا تبدأ ابداً من الحراك نفسه، لا في الزمن الذي إبتدأ فيه الحراك ولا الزمن الذي سينتهي فية ايضاً، سواء بوعيه لهذه التفاصيل او بوعينا نحن لموقعنا المختلف خلال الحركة المتغيرة لاتجاة سير الحراك ربحاً او خسارة!
لطالما وجدنا الفنان الثوري الاصيل يسبق الثورة بتوقّعة لها ولأحداثها ربما بسنوات كثيرا قبل حدوثها. (الاخوان رحباني في عطاءاتهما العظيمة مثلاً، أولادهما كمثال مختلف لاحقاً من زياد الى مروان غدي واسامة مروراً بغسان وصولاً الى حفيدهم عمر). هناك نموذج مرسيل خليفة، خالد الهبر، أحمد قعبور كأمثلة فنية وحزبية متفاوتة. هناك امثلة اخرى كثيرة في لبنان، وامثلة غيرها في مصر تمتد من زمن فنان الشعب سيد درويش الى فنان الوطن والغلابة والمعتقلين الشيخ إمام واحمد فؤاد نجم. وكمثال للشعراء يوجد نماذج تماثلهم كثيراً من بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكه كرواد مجددين الى محمود درويش مروراً بسعيد عقل وادونيس وخليل حاوي وكثيرين غيرهم من الشعراء اللذين احدثوا قفزات نوعية متفاوتة غيرت الى الابد في بنية الشعر والنثر وخط سيرهما. غالباً ما يتنبأ الفنان باكراً بتفاصيل ودقائق حركة الثورة او الحراك في فنة بقصد او بدون قصد. قد يرى الفنان بعيداً ويشير اليه في احيان نادرة، نراه يتنبأ بالاحداث بدقة، ومن اكثر هذة الامثلة إشراقاً وسطوعاً كان الرفيق زياد الرحباني نموذجاً صارخاً للإبداع والتنبؤ. وهو إذ تابع مسيرة الاخوين على طريقتة الثورية المُتفردة، نقل السيدة فيروز كأيقونه جيل عاصي ومنصور الى ايقونة لأجيال ما بعدهما. يأتي لاحقاً اولاد عمومتك ليقول كل منهم مشروعه الفني واجاباته على سؤال الفن والابداع على طريقته المختلفة. قد تنضج الرؤية الفنية عند الفنان من خلال تطور رؤيته لنفسه وأدواته الفنية وهما يتفاعلان مع تطور وعيه الفكري المتوازي فوق تراكم أحداث الحراك او الحرب، فتتوازى وتتقاطع علاقة الفنان بتعدد هذه العوامل وارتباطها بالناس افقياً وعامودياً. قد لا تأتي هذه العلاقة بالضرورة متوازية وكما يتمناها المواطن العادي ابداً، خصوصاً اذا كان مناضلاً متعصباً لرؤية حزبية او دينية لا تتسع لتنوّع حركة التاريخ والحياة. أو إذا كان مقاتلاً بالبندقية وقد تشابكت امامه مهمات التحرر الوطني بالتحرر الاقتصادي الاجتماعي والطبقي (لبنان أو فلسطين مثلاً).
أما بقية تفاصيل ارتباط هذة العلاقة مع انجازات الفنان الحقيقي، فهي لا تنضج إلا في أوانها. وهي حتماً ليست خاضعة لرغباتنا ولا لإرادتنا، ولا لرغبة الفنانين الحقيقيين انفسهم، ولا هي في يد طرف ثالث يمكنه قياسها ابداً. أما كيف يجب علينا أن نفهم أهمية الفنان الثوري لِنُقيِّمه بشكل عملي وفعّال، فهذه مسألة معقدة بما لها من مقاييس متعددة واهمها دائماً وبالدرجة الاولى وجهها الفني الذي يحب أن يأتي اولاً بالضرورة واولاً قبل كل رغبة فردية بشيء آخر. بعد استجلاء هذا الوجه، يسهل استجلاء العوامل الاخرى ليخرج علينا كل فنان بصلابة عطاءاته التي تؤكد بفنيتها قدرة تفاعلها انسانياً لتحتفل بتأثيرها ضمن العملية الفكرية والروحية المعقدة للثورة او الحراك من حيث ربطهما بوعيه لسر الحياة وانعكاسه على التأثير الذي يطال وعي البشر وردة فعلهم على فنه! تستجلي هذه العلاقة ايضاً مدى تفاعل والتزام الفنان بمعاني الحرية وانعكاس اشكالها السياسية والاجتماعية والطبقية فنياً على فهمه وتطبيقاتها التي تطال أي إعتداء على الكرامة الانسانية عبر العالم، فتنجلي بذلك علاقة الفنان بفهمه الفني لما يربط النظرية الفنية بتطبيقها على الاحداث للحث على تغيير مظاهر الوعي الانساني، فبقدر ما يؤثر بفنه والتزامه الانساني بها، يتطور هو وفنه ويفرض احترامه بصدقٍ وكفاءة انجازاته كقيمة جمالية مطلقة لا تساوم على الشفافية وهي تربط ما بين الاصالة والحداثة من قوة حاسمة وضرورية لقول وفرض سرِّك الفني الصلب!
الفن في النهاية عبارة عن نشاط روحي فكري عقلي ومادي مترابط بصورة معقّدة فيلامس الابداع بقدر ابتعاده شكلاً ومضموناً عن فكرة عناصر البيان الحزبي لمبدأ «كن فيكن» أو الأَمر بالتنفيذ قبل الاعتراض، كما في العسكر أو النصوص الدينية القديمة أو الخطاب الهابط للسياسة الرسمية العربية، وهو أي الفنان باستمرارية بهذا التوجه الحر يكون قد رافق الحراك بكل مستلزمات الرقي والسمو والصدق والحرفية في استلهامه لقيم التعبير الفني اللامتنازلة عن اعلى مقاييس العالمية الفنية الملتزمة بجذورها ومرجعيتها الوطنية والمحلية. تنبض علاقة الفنان وتشرق بحركة زمانها ومكانها بعيداً عن التقليد المدرسي الاعمى للهويات الفنية العالمية الاخرى التي ظهرت بملامح وموديلات خاصة بمراحل حقباتها القديمة لاصوات ومهمات وقتها وظروفها . كل هذا يجب ان نراة بموضوعية وبعيداً عن رغباتنا كافراد او احزاب ، يجب ان نفهم اهمية وضرورة هذة الحقائق كمراقبين ونقاد وسط ساحات حراك نحبها لكنها بعيدة عنا بجذورها وتقاليدها الجغرافية والسياسية و القومية. اما المسألة الاخيرة الاقل تعقيداً والتي يقع ضحيتها غالباً اهل الحراك البسطاء من مواطنين عاديين وجماهير ذات توجهات حزبية مُؤدلجة او مُؤسلبة ومفروضة دينياً كمجالس مذهبية وطقوس غيبية، فهي تكمن في مكر ما اخذهم اليه سابقاً او سيأخذهم اليه انصاف وارباع المثقفين والمؤمنين التقليديين وهم يتوارثون جينات مسألة قديمة بالية، سواء بقصد أو بدون قصد، بحسن نية او بسوئها، وهي مسألة الفن التقدمي والفن الرجعي وهي مسألة يعاني منها اهل اليسار اكثر من اهل اليمين. علماً أنّ مفهوم اليسار واليمين علمياً هو مفهوم نسبي يشوبه الالتباس ويسهل عبرة صرف جهود وافكار ونضالات الناس عن مصالحها الحقيقية المشتركة بهدف الانقضاض عليها وتمزيق نضالاتها ومطالبها، تماماً كالطائفية السياسية والمذهبية التي تفرقهم قطعاناً وتشرذمهم فيسهل على الحكام امتطاءهم لاخذهم الى مسالخ الحروب الاهلية والدينية التي مزقت اوروبا لمئة عام! إن ما يجب على اهل الحراك الوطني معرفته جيداً فيم ا يختص بعلاقته بالفن والفنانين هو انه قد يجرى تسويق وتعميم نفس الافكار السابقة لتسري حالياً على الفن والفنانين ضمن كليشيه الفن التقدمي والفن الرجعي. الحقيقه انه لم يوجد ابداً ولن يوجد لا الآن ولا في المستقبل إلا الفن الجيد والفن الرديء. وتسهيلاً للفهم يمكنني توضيح ذلك بالقول ان فناناً يمينياً ورجعياً في السياسة قد يكتب موسيقى جيدة وجميلة ومتطورة، تماماً كما أنّ فناناً يسارياً اشتراكياً تقدمياً آخر قد يكتب موسيقى رديئة! لقد آن الاوان ان تنكشف هذة الحقائق بعريها المحسوس وبعيداً عن التجريد امام الجميع. في النهاية لن يبقى امام الناس والتاريخ الا الصحيح.