على غلاف الطبعة الرابعة والجديدة من «لبنان فلبنان» Lebanon shot twice (هاشيت- أنطوان) للإعلامي زافين قيومجيان، تخصيص لتيمة الأعراس في الحرب الأهلية و«الثورة» اللبنانية. قرابة ثلاثين عاماً، فصلت ما بين زمنين: زمن صورة تعود للثنائي هاغوب وأنجيلا أبو سفيان (1989 ــــ تصوير جوزيف براك)، التقطا صورة لعرسهما خلف متراس رملي، وأخرى تعود لكاتيا طرابلسي ممسكة بذراع والدها في «الأشرفية» (1989 ــــ تصوير: روجيه مكرزل) وخلفهما أكياس رملية، تقابلها صورة حديثة لملاك علوية التي لقبت بـ «أيقونة الثورة» تحتفل بقرانها عند جسر «الرينغ» (تصوير علي شحرور)، وفي الخلف، تتمركز أشهر صور الحرب الأهلية (1983) جمعت عبد جمعة وأريج اسطفان في إطار زواج مختلط دينياً، (تصوير: جورج سمرجيان)، واكبتها الصحافة العالمية باهتمام شديد. أجواء بلون أبيض قد تبعث الأمل في زمن «الثورة» وزمن الحرب والتقسيم والاقتتال، لكن يبدو أن هذه الصور وتيمة الأعراس، التي قصد قيومجيان أن تتصدر كتابه الجديد، وشت بـ«بحكاية وطن يبحث عن عرس مستحيل» وفق ما ورد في الغلاف الخلفي للكتابي، وما نستخلصه من الصور التي يقارب عددها الـ400، تتنقل بنا من حقبة الثمانينيات وصولاً إلى 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تاريخ بدء الحركة الاحتجاجية في لبنان. صور أرادها هذه المرة الإعلامي اللبناني، أن تتوزع على صيغة «قبل وبعد» كما في طبعاته السابقة، مع زيادة صيغة أخرى «بعد البعد» للوجوه والأماكن التي طالها تشويه الحرب، وربما تشويه آخر بعد الحرب، زادها بشاعة لا سيما الأماكن في بيروت والضواحي.
صبحية فارس (أم تيسير) تطالب في اعتصام لأهالي المفقودين والمخطوفين بالكشف عن مصير زوجها وأولادها الثلاثة ــ 1984 (غريغ سميث)


حفلات زفاف (1989 و2019 )

الناظر في مسيرة قيومجيان، يلحظ حتماً الهاجس الذي يسكنه كصحافي أولاً، وكلبناني يتحدر من جيل الحرب الأهلية. هاجس اعتقد أن حلقة أو مجموعة حلقات تلفزيونية قد تفي بالغرض، إلى أن توسعت الدائرة وبدأ العمل على تجسيد فكرة الصور وأصحابها بين الماضي والحاضر عام 2000. تطلبت الطبعة الأولى (2003 ـــ دار النهار ـــــ تصوير حياة قرانوح) جهوداً حثيثة للغوص في أرشيف ضخم في الصحف والمجلات ومراكز الأبحاث المختصة، وعملاً ميدانياً أيضاً، أجبر قيومجيان على البحث من شارع إلى آخر، وأحياناً من حي إلى آخر، لإيجاد أصحاب الصور، ومعرفة مصائرهم. حاولت الطبعة الأولى من «لبنان فلبنان» (لاقى شهرة واسعة محلياً وعالمياً)، والثانية (2005)، والثالثة (2009)، رسم وجوه مدينة بيروت والإجابة على أسئلتها، وإعطاء القيمة الوجودية لأصحاب الصور كشهود على زمن الخراب والدم، وكمؤرّخين بطريقة أو بأخرى، لتلك الحقبة السوداء من تاريخ لبنان، كي تصبح مرجعاً للجيل الذي ولد بعدها. في الطبعة الرابعة الحديثة (تعاون مع المصور علي شحادة)، يوّجه الكاتب تحية إلى صالات السينما في بيروت وإلى أفيشات أفلام الثمانينيات، كجزء من الثقافة الشعبية التي سادت خلال الحرب، مع توسيع عدسة الكاميرا، كخروج عن صيغة «قبل وبعد» بشكل جزئي، لتشمل صوراً أرشيفية من الثمانينيات، تقابلها مشاهد بانورامية للشارع أو حتى قد تتخطاه إلى لقطات غير مرتبطة بشكل عضوي لكنها تلتقي في الفكرة، كصورة الطفل الشهيرة، الذي كان يحمل بيده بطاقة الهوية (1978- تصوير عباس سلمان)، إثر نزوح الجنوبيين إلى بيروت في فترة الاجتياح الإسرائيلي، تقابلها صورة للطفل خالد ابراهيم عطية يحمل هويته أيضاً، لكن الفارق أنه نازح سوري في لبنان كان في منطقة «الأوزاعي» العام الماضي. وقد التقى الطفلان على تيمة النزوح والهرب من ويلات الحرب.

أم تيسير تنتظر ــ 2002


وسط بيروت ـ21 تشرين الثاني 1976 (عدنان ناجي)


الصنائع – 1976

طبعة كان مقرراً إصدارها في فترة الانتخابات النيابية العام الماضي (مقارنة بين أماكن الحرب وتحوّلها لاحقاً إلى مساحات لصور السياسيين)، في اعتقاد صاحبها بأنها قد تحمل تغييراً في المشهد السياسي، وتكون «محطة مفصلية» كما يلفت في حديث مع «الأخبار»، لكنه ما فتئ أن عدل عن المشروع، لما أفرزته نتائجها: «الانتخابات كأنها لم تحصل»... إلى أن أتى تاريخ 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، و«حمّس» زافين لإصدار الكتاب، فمثّلت الانتفاضة الشعبية «المرساة» التي أمسكت بالكتاب، ومنحته نكهة مختلفة.
في كل مشهدية الإصدارات الأربعة، هاجس يسكن الإعلامي اللبناني ألا وهو التحولات التي تحصل في الأماكن والوجوه. ينتقد قيومجيان نكران الأجيال السابقة لها، والتعاطي مع التاريخ كأنه بدأ في الوقت الحالي: «لا يوجد احترام لتغير الذائقة والمزاج، فالمجتمع لا يتقبّل ذلك»، مشبهاً إياه بـ «المحنّط». لذا، لجأ زافين إلى صيغ «ما قبل وبعد وبعد البعد»، محاولاً التقاط هذه التحولات في الوجوه والأمكنة، راصداً التغيرات من جيل إلى آخر، في رصد لهذه الاستمرارية. ولعل الأحداث الكبرى، التي تسرّع هذه التغيرات ــ كما يلفت قيومجيان ـــ سرعان ما تتحول في الوقت عينه، إلى مشهديات «خطرة» كما يقول.
الطبعة الرابعة توجّه تحية إلى صالات بيروت وأفيشات أفلام الثمانينيات كجزء من الثقافة الشعبية التي سادت خلال الحرب

يتمثل ذلك حين يتم التعاطي مع المأساة كأنها لم تحصل، كما جرى في الحرب الأهلية وضحاياها الذي ماتوا «كأنهم لا أحد». من هنا، يمكن استشفاف لجوء قيومجيان إلى هذه السلسلة إن صح التعبير، لإعادة الاعتبار إلى موتى الحرب، ومفقوديها، كما حصل في الطبعة الرابعة، في تخصيصه حيّزاً لهؤلاء ولذويهم، وتوثيقه صورة «أم تيسير» آخر أمهات المفقودين الحيّات، وختمه للملف بصورة عملاقة للمناضلة وداد حلواني، في لقطة تعود إلى العام الماضي، صوّرت في تلفزيون «المستقبل» وبدت على ملامحها علامات الحزن والأسى، كدلالة على ما آل إليه هذا الملف الإنساني العالق منذ أكثر من أربعين عاماً. إضافة إلى الوجوه والقضايا، تحتل الأمكنة مساحات واسعة من الكتاب، الذي يرصد حركة التغيير الحاصل فيها، وحركة المدينة. هكذا، اختار قيومجيان صور انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) وركز على منطقتي «الرينغ» و«وسط بيروت» (أغلبية الصور هنا تعود إلى زميلنا مروان طحطح). طابع الصور ينحو صوب المشهد الجمالي أكثر منه صوراً آنية من التظاهرات على سبيل المثال. يعلّل الإعلامي اللبناني سبب هذه الاختيارات، بكونه أراد انتقاء «أجمل صور للثورة» تحمل معاني الأيقونية. نسأله هنا: هل استطاعت هذه الصور التعويض عن خيبة رافقته في مرحلة «بعد البعد» التي كان قد وصفها بـ «الحزينة»؟ يجيبنا بأنها مثلت له «الأمل» المرهون بحزن قد تحمله الثورة فـ «الثورة قد تنفّس حرباً لكنها قد تشّرع حرباً أخرى»!