«إن أردت أن تقرأ فلسفة، عليك أن تختار جان بول سارتر أوّلاً»! تلك كانت الجملة الأولى التي سمعناها من أبو طلال أيّام الجامعة، بائع الكتب الشهير الذي طوى أمس الصفحة الأخيرة من كتاب حياته، وأغلق الدفّة ومضى إلى غير رجعة، بعيداً عن برد و صخب المنطقة التي عاش قسطاً وفيراً من حياته فيها (تحت جسر الرئيس). فخلال مشواره اليومي لتسّوق الكتب في منطقة الحلبوني، وقع مغشياً عليه وفارق الحياة إثر سكتة قلبية!تعرفنا إليه طلاباً حين أراد شاعر ميّال بطبعه للصعلكة وهو أحد زملائنا، تعريف الدفعة على وجه آخر من دمشق، أو بالأحرى نسخة غير متداولة للقاع الشامي. اصطحبنا إلى مقهى رخيص في شارع النصر، زبائنه يعرفون بعضهم. ورغم التهم المشينة التي قد تلاحق بعضهم، أو القضايا الشائكة التي تزيّن سجلاتهم العدلية، إلا أنهم مستعدون لمناصرة أي مظلوم من دون تردد، ومن ثم قصدنا مطعماً أسعاره شبه رمزية يأكل فيه الزبون حتى يشبع والكل يدفع الحساب ذاته! وبعد ذلك إلى رصيف مفروش بالكتب على كتف بردى قرب «التكية السليمانية» (المتحف الوطني). لحظات معدودة كانت كفيلة لأن تكشف عن اختلاف الرجل وخبرته وحنكته، ولعلّ السمة الأولى التي تلمع في عينيه هي الانتقائية لكلّ ما هو حوله. رغم جلافة القدر وحرمانه من الخيارات المتعددة في حياته، إلا أنه كان يصرّ على اختيار عناوين كتبه ولو كانت مستعملة كما قال مرّة لنا بأنها: «الرغبة لانتقاء زبائني، هي من تدفعني لانتقاء كتبي. هذه المهنة لا تعطي أرباحاً بقدر ما تمنح شغفاً». أكرم كلثوم من مواليد السلمية سنة 1958 حسبما يقول زملاؤه على البسطات المجاورة، وقد أحالوا المشهد رغم الضجيج الهائل في هذه المنطقة من المدينة، إلى طقس حداد بمجرّد أن ظلّت بسطته ملفوفة بشوادر تشبه الكفن الذي يلفّ جسده الميّت اليوم!
الرجل سمع نصيحة أبو مؤيد أحد البائعين المعروفين في المنطقة ذاتها، بعدما تقاعد من الجيش سنة 1995 وافتتح البسطة، وراح يمضي كلّ وقته في القراءة. النهم المعرفي جعله مثقفاً حقيقياً ينهل من وافر الكتب التي بين يديه وتنوّعها، ويقبض على روح المدينة في أكثر مناطقها إثارة وغنى اجتماعياً، وهو يتعاطى مع كلّ شرائح المجتمع، من دون أن يوفّر نصيحة على طالب معرفة وعلم، أو شاب في مقتبل العمر يبحث عن حلمه لكنّه لا يملك المقوّمات المالية لتساعده على تحقيقه. أبو طلال هو عرّاب المكان الأرخص لبيع الكتب في العالم، وربما واحد من الأماكن القليلة جداً التي تقّدم كتباً مجانية لمن لا يملك نقوداً. ربما ميزة هذا المطرح أنّه الوحيد الذي لن يفكّر تجار الحرب وحيتان المال الذين ينهكون اقتصاد البلاد، ويبتلعون رزق العباد بالاستثمار فيه، أو حتى المرور منه. فمقتنيات البسطات من كتب وثقافة ومعرفة لن يحتاجها هؤلاء مدى حياتهم!