منذ نصف قرن، تعرفت إلى الشاعر غسان مطر عبر شاشة تلفزيون لبنان في برنامج «سوق عكاظ». كان مجلياً بحضوره وإلقائه وسرعة بداهته، فهو شخصية مميزة قريب للقلب، جمع التفوق والنجاح مع الجاذبية وأسر المشاهد.يومها أُعجبتُ به، وانحزت إليه، رغم أني لا أعرف اتجاهه السياسي ولا التزامه الحزبي. بقيت صورته في وجداني إلى أن تعرفت عليه في بيروت في الجامعة والحزب والحياة العامة.
تبوأ غسان المراكز الحزبية العليا ودخل الندوة النيابية وتحمل المسؤوليات القيادية في الأنشطة القومية والعربية والجهوية، وكانت له أدوار فاعلة ومواقف جريئة، لكنه بقي شاعراً ملهماً وإنساناً صادقاً. لم تغيّره المناصب ولم تبدّله المواقع. أصاب وأخطأ، لكنه كان دائماً منسجماً مع نفسه لم تجرفه المناصب ولم تستهوِه مغريات الدنيا، فحافظ على مبادئه وحرية رأيه وطهارة إيمانه. فكان وفياً لمعتقده ولأصدقائه ورفقائه، ولم يتخلَّ عن إنسانيته وعطائه، وظل شاعراً أولاً ومبدعاً باستمرار. حمل غسان أحلامه ومعاناته وأحزانه الخاصة التي جبلها مع تجربته الشخصية ومسيرة صراعه في الحياة والوجود. تغلب على مآسيه الذاتية بتفجير موهبته بالشعر المبدع والكلمة الحرة.

جاء غسان من أعالي جبال تنورين، معبراً عن مأساة فلسطين ومعاناة الأمة وتطلعات المقهورين

حمل آلام الأسرة ونكسات الزوج والأب، دون أن تنسيه أحزان الأمة ونكبات شعبه، فعبر عنها بقصائد وخطب سجلها في دواوينه الشعرية فكان سيد المنابر، وملهم الشباب ومحرّك الجماهير.
جاءنا غسان من أعالي جبال تنورين، معبراً عن مأساة فلسطين ومعاناة الأمة وتطلعات المقهورين، فكان صوتاً صارخاً مدوياً بوجه الفساد أينما وجد، وضد الظلم أينما كان، فسار عكس التيار الانهزامي. تأبط غسان أبياته الشعرية مدافعاً عن المقاومة والنهضة والتغيير معاً.
آمن غسان بالشعر، والعبارة الجميلة لديه سيفه ضد الاستبداد، وكلمة الحق نبراسه للوعي والتغيير وصورة المعنى مهمازاً للبطولة المؤيدة بصحة العقيدة.
استنبط غسان رموز البلاغة وطيّع اللغة والبيان لرسم معالم المجتمع الجديد، وفجر الأوزان لإبراز ملامح الإنسان الجديد، فكان ثورة على التقليد دون أن يتخلى عن الأصالة، كما كان ثورة على الأصنام وجمود الحرف لينير الطريق أمام حياة جديدة هي خلاصه وخلاصنا.
غسان مطر... شاعر إن سمعته صامتاً فبركان شعرٍ يتهيأ للانفجار أو سمعته متكلماً فأنت في حضرة مؤذن للثورة، للثوار، للأحرار، أو قرأته سيرة وحرفاً ما تغير في الأمر جوهر.
هو... هو غسان مطر شاعر الأرض والنار والمطر، في تماهيه مع الأرض تتساءل أيهما أرخى على الآخر ظله، غسان أم تراب الوطن.
أما ناره الشعرية، تُحرق وتُضيء، تُحرق كل ما يعترض سبيلها من هشٍ وهشيم، وتُضيء بزيت الشعر قنديل أمةٍ ظنها أعداؤها منطفئة.
وشاعر المطر ينهمر شعراً يروي العطاش إلى البر، إلى الحب، إلى الثورة إلى إنسان خارج الأحزان.
واليوم في احتفال تكريمه ماذا نقول؛
تكريم شاعر، أمر صعب.
أن تقول فيه كلاماً؟ فهو سيد الكلمات.
إن الشاعر مهرجان من أحزان وغياب.
شعره، أعمدة وطواف وألف سؤال.
فكيف نكرمه؟ بل ماذا نقول فيه كل لغة معه قصيرة القامة.
وغسان مطر، شعره ظله، أو ظلُّه شعر، أو كله شعر.
من زمان بعيد كان يقول: «إن البكاء طريق إلى الكلام»
صدمتنا أحزانه. وكان يقول: «يطعنني جسدي»، و«يداي الحرف الشاهد أن الموت رهان»... و«على جسدي أن يتلو فاتحة السكين». اكتظت قصائده بالألم. فاضت لغته بهاجس الخلاص المستحيل. وبخديعة «احتراق الماء».
لا ترتوي من شعره. تقرأه وتطلب المزيد. يأخذك إليه. لا يدعك محايداً. فإما تحزن وإما تغضب وإما تثور. وإما تصير أنت كائناً يشبه القصيدة.
لغسان مطر، حساسية وجودية. ملتصق بشدة بالواقع، ومعبر عنه بالجمر من الشعر. فيأتي الكلام بخوراً في معبد القصيدة.
وله أيضاً، كبرياء بلا هوادة. غضب يشبّ معانقاً الغد. أحزانه باسلة، كأنه قُدَّ من حصون الأمة. فلسطين مداه وعمره وإطلالة على الأعلى. هذه المخضبة بالدم، تُزهر في شعره، كأنها المؤذن غداً والأجراس دائماً.
يختلط عليك الأمر، لِغِنى صياغاته. غير أنه مثابر على الانتصار غداً. مثل مواويل العيد. أو، مثل الرحلة الموجعة إلى الوطن المشتعل شوقاً و«في يديه السماء».
غني جداً. دربه في الشعر لا ينتهي. طريقه اختطه بحبره. يُستعار منه ولا يستعير له، أكثر من صدى لصوته المجروح. إذا انكسر، استفاق على شوقه إلى زمن جديد. حزنه لا يُثير البكاء. بل، وهو الساحر، يأخذك إلى مساحات الشعر، لأنه أحياناً، «لا يرى سبباً لهذا الحزن». سيزيفي أحياناً. يحمل الصخرة وتتدحرج. أليست الفصول الأربعة كذلك؟ أليس الإنسان المرهف كذلك؟. يقول:
«مر خمسون عمراً على موتنا،
والطقوس التي مورست قبلنا،
مورست بعدنا،
فلماذا العويل؟»
له أحلام تملك رؤيا. إنه يرى ما لا نراه. فاتك بقوته، نبيل في قوته، حتى ليبدو دائماً، وهو الجريح، أنه أقوى من دموعه المكتومة.
ماذا أقول أيضاً؟
أقول: لا أرتوي من شعرك. أظل في جهة المزيد. أعود إليك. كلما عنّت على بالي فلسطين، وكلما شرَّع الحزن أشرعته على عيني.
ماذا أقول بعد؟
أقول ما تقول:
«بيننا ألف قصيدة
وألف هامش
ودم واحد»
أخيراً. «يشتهي القلب أن .....يشتهي».
قال غسان قصيدته والتزم بوقفات العز، لكن عندما تغلب الضجيج والمهاترات والتفاهات على حياتنا السياسية والحزبية قرر أن ينسحب بصمت إلى عرزال الشعر النابض بالحياة والكلمة المحيية، دون أن يتخلى عن التزامه بقضية تساوي وجوده. يطل علينا غسان من عزلته وهو يتحدى الضوضاء والفوضى ليحرضنا على متابعة المسيرة من أجل نهضة متجددة تُغلّب الوعي والأخلاق وتقاوم الاستعباد والاستبداد الخارجي والداخلي معاً.
تعلمت من غسان أن الشعر يحررنا والكلمة طريقنا إلى الحرية.
شكراً غسان. من كأسك ننتشي.

* كلمة الكاتب والناشر اللبناني التي ألقيت يوم الأحد الفائت في «مكتبة الأسد الوطنية» في دمشق في مناسبة الاحتفال التكريمي للشاعر غسان مطر بدعوة من «دار دلمون الجديدة» وجمعيتي «نحنا»، و«حق وخير وجمال»