يستكمل أسعد عرابي في معرضه الجديد الذي تستضيفه «غاليري روي صفير» في باريس، هذه الأيام، مشروعه اللوّني في تدوين صورة المدينة بعنفوان طفولتها واحتضار شيخوختها، تحت وطأة ما خرّبته الحرب، وما نجا من الدمار بقوة الذاكرة. ذلك أن العلاقة بين «الساكن والمسكون» تعرّضت لكدمات روحية عنيفة، تبرز هنا على هيئة أحلامٍ مارقة وكوابيس ثقيلة، تتواتر وفقاً لاندفاعات تعبيرية لا تنقصها البسالة في أرشفة الوجع وطبقات الاغتراب والحنين إلى مدينة أضحت بعيدة وضبابية. ذلك أن المسافة بين باريس مكان إقامة التشكيلي السوري، ودمشق التي تنأى تدريجاً، يجري اختزالها بسطوة العاطفة، ومهارة استدعاء اللون في رسم خرائط المحنة. كأنه بذلك يؤجل قيامة المدينة بالتوازي مع قيامة الفرد في وحدته، في ترويض فكرة الموت. اكريليك طازج في تدوين العدم، وشهادة غريزية حارة بالأزرق والناري في محاولة مستميتة للبقاء. هذا الإحساس الفجائعي يخفت في بعض الأعمال (20 لوحة) لمصلحة أزقة جانبية لم تنهبها آلة القتل، فتنهض الطفولة كآخر جدار استنادي في مواجهة الغروب، على هيئة طائرات ورقية لا تحمل حمماً. يسعى أسعد عرابي إذاً، إلى هتك الزلزال، بزلزال تعبيري مضاد ينطوي على أسئلة جارحة في معنى الفناء، بشطح إيقاعي عميق في تفسير سرابية اللحظة وجحيمها. يقول في بيانه للمعرض: «إذا كان من البديهي أن اللوحة غير معنيّة بإنذارات الساعة وقيامة المدن أو الإحباطات الشمولية في «الأنا العليا»، فهي لا تستقيل من شهادة تعقّب وتحسس الزحف العدمي الوجودي والإستسلام العبثي لسيولته البركانية التي تنهش الجسد كلما تقدم به العمر». ويضيف موضحاً: «هي مشروطة بالاستغراق العزلوي في الذات من دون قطع حبل السرة والتواصل مع الآخر. تماماً مثل ثنائية الباطن والظاهر».
من جهته، يشير الناقد الفرنسي جيرار إغسيروغيرا في رؤيته لأعمال أسعد عرابي الأخيرة: «لا تصبو تكويناته المدرّعة بالخطوط السوداء إلى أدنى خلاص أيديولوجي أو ضميري جاهز. تستلهم لوحته وقائع فظائعية تدين ذلك الوعي الاغتيالي أو الإجرامي العام. تتمثل هذه اللوعة بحشود من المحاصرين الهاربين من القصف الأعمى والمتواصل للأحياء السكنية العريقة. هو ما نال من بيروت قبل دمشق. وهنا تحضر إدانته الفنية في كل مرة تندلع فيها حروب الأخوة والأشقاء». نغادر مناخات أسعد عرابي، من دون أن تغادرنا غربانه الكابوسية، وآخر ملاذات طفولة هاربة وبعيدة ومنتهكة في ثلاثية «الاغتراب والغربان والغروب».