يبدأ خالد زيادة من المتوسط ويستمرّ في المتوسط. لا يتجاوزه بل أحياناً يحضر البحر إلى المنازل. البحر بما هو أفق، والمتوسط بما هو ثقافة، والإعجاب بهذا المزيج إلى حدّ الغبطة. يقول في مقدمة كتابه «مدينة على المتوسط» (رياض الريس ـــــ 2018) إنّ الأخير ليس تأريخاً، ولا كتاباً تاريخياً. والحق أنّه ليس كذلك، فهو عبارة عن نصوص شخصية، لكنّها خرجت من التاريخ والحاضر. فضفاض لا يستطيع تأطيره. لا ألبوم واحداً كافياً لاحتواء الصور الوافرة الآتية من طرابلس. وقد يركن قارئ النصوص إليها بعد وقتٍ ليستدلّ إلى تاريخ بعين صاحبها ليعيد تصحيح صورة من الصور في ألبوم المدينة. المدينة التي يقترحها علينا زيادة، هي سيرة قامت على أدوات أنثروبولوجية، ولسبب مجهول فضّل صاحبها أن يعرضها على طبق الأدب: «بعد ظهر يوم الجمعة ليس كصبيحته، شيء من الكآبة والسأم يتسرب إلى داخل المنزل، بل يلف أجواء الحارة. كان علينا أن نبدأ بالتحضير ليوم المدرسة إلى الغد. وكان الأخ الأكبر سناً هو الذي يأخذ المبادرة لتذكيرنا بفروضنا ودروسنا». هكذا تنساب النصوص بلا ادعاء ولا تكلف، لكنها محمّلة بالرموز ومدفوعة باتجاه الأنثروبولوجيا. وقد تطورت الأخيرة في الميدان، حتى صار من صفات الأنثروبولوجي أن يقيم في المجتمع الذي يدرسه، على أن يكون جزءاً منه. والإقامة هنا تعني الوقت الكافي في الدراسة وفي جمع المعطيات. وبلغة أنثروبولوجية يمكن القول: الملاحظة والمشاركة. لعل الكتاب يقدّم مادة وافرة في هذا الإطار، رغم أن كل ما حاول أن يفعله هو النبش في ذاكرة عائمة على البحر.وبما أن النص سيرة، فهذا يعفي صاحبه من أعباء التوضيح، ومِن الأضرار الجانبية لتحليل الماضي خارج سياقه. فإعجاب النصوص بالآتين من جهات أخرى على المتوسط على حساب إرثها الطويل، لا يجعل من هذا الإرث منفياً. فطرابلس مملوكية وبعد ذلك عثمانية وسيحتاج هذا إلى شروحات طويلة، يستعيض عنها الكاتب بيوميات تتنقل بين الشرفات والطرقات. ما يعلق في رؤوس الأطفال ويبقى في ذاكرتهم من الطفولة. صحيح أن النصوص تتابع عمر المدينة وتمشي السيرة إلى ما تقترحه علينا: الحداثة والتحولات الديموغرافية. لكن هذه القصص الكثيفة المخبأة في أزقة تواجه المتوسط، تطرح الكثير من الأسئلة: «وقد اجتذب مقهى حديث، وهو منتزه على الطراز العثماني، النادلين من اليونان الذين كانوا يتخاطبون في ما بينهم بلغتهم...». ثمة تلميحات ومواقف، لكنها لا تعدو حاسمة. مجرّد إشارات، مِثل الصورة إلى جانب صورة لجمال عبد الناصر. فالموقف من صورة عبد الناصر، ليس موقفاً من ديكور المدينة، وليس موقفاً في العمارة وفي موقع النصب في الساحات. إنها إشارات إلى مواقف شخصية، لا إلى مواقف مدينة. لأن أجوبة الأخيرة لا توجد في السير الشخصية. ولعل هذا ما يفسّر مسارعة زيادة نفسه، منذ البداية، إلى القول إن هذا ليس تأريخاً، ومثال آخر على ذلك، عندما يتحدث عن الدولة بالسهولة التي يتحدث الناس عنها، لا كجهاز يدير المصالح، وبدون أي تحليل للعنف الرمزي الذي يضمره المصطلح. غالباً يتحدث عنها بلغة أهل المدينة لبلوغ نزعته الانثروبولوجية في الوصف مبلغاً: «وإذا كانت الدولة هي باب الحداثة، فإن الخوض فيها وتمثل نماذجها يبقى شأناً أهلياً، فتدافعت العائلات للخروج من القديم إلى الحديث الناشئ، وهبت موجة من العمران باتجاه المناطق الجديدة».
نتحدث عن «مدينة على المتوسط»، وربما هذا يجعل الحديث عن العمارة والعمران أساسياً. ويتضح هذا في ملاحظات زيادة وسيرة طفولته وطفولة المدينة في ستينياتها. المدينة لا تكبر. الانطباع الذي تمنحه النصوص هو أن المدينة تبقى شابة، أو أنها تموت فجأة. ورغم أن الحقبة الأساسية التي تتناولها الفصول الأنطولوجية، تدور بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تبدو متراصّة بدقة، إلا أن الاستعارات من تاريخ المدينة لا تبدو على ذات الدرجة، وذلك لأن الكاتب نفسه اختار أن لا يكون مؤرخاً. ولسيرة التاريخ وتاريخ العمارة، تجدر الإشارة إلى أن اللبنانيين عرفوا دراسة العمارة في الأساس بعين غربية، إذ بدأ الأمر في «الجامعة الأميركية في بيروت» عام 1866 ثم تبعتها «جامعة القديس يوسف اليسوعية ــ الفرنسية»، وكان ذلك في بيروت أيضاً في 1875. أما «عندنا»، كما يسميها المعماري رهيف فياض، فنشأت في إسطنبول في 1888، ضمن تنظيمات السلطان عبد الحميد الثاني الإصلاحية. وهذه، كما تبدو، فترات ليست بعيدة كثيراً عن الفترة الزهرية التي يتناولها الكتاب، وإن لم تكن زهرية تماماً، عندما يعود إلى «أرضية» الخمسينيات والستينيات بوصفهما «مرحلة تأسيسية» لما قبل الحرب. و«الأرضية» هي حقبة الانتداب. يلفت القارئ أن باحثاً يعرف معنى الكولونيالية جيداً عندما يقول: «هذا الاختلاط والتنوع تعرضا للاهتزاز بقدوم الفرنسيين. إذ أن المدينة الكولونيالية تشتت أبناء المدينة الواحدة، فترفع جماعة واحدة فوق المدينة واجتماعها»، يكون قد سبق هذا باستعارة حادثة كولونيالية بامتياز بلا تعليق: «وعادةً ما ترك الفرنسيون للجنود السنغاليين مهمة التصدي للأهالي، ومن هنا انحفرت ذكرى هؤلاء التابعين في تاريخ الساحة».
يعود إلى الخمسينيات والستينيات بوصفهما «مرحلة تأسيسية» لما قبل الحرب


رغم كل شيء تبدو السيرة هادئة. تمشي بين السطور بسلاسة. المفردات أشبه بحصى ملونة في قاع النهر تضيف إلى المجرى رونقاً، فيمشي بدونها. السيرة نهر والحصى قصص تبقى عالقة في مكانٍ عميق من الذاكرة. لكن هذا أدب، وما يضعه خالد زيادة بين أيدينا هو الأدب. وهو لشدة سلاسته وانسيابه الهادئ، اقتراح أكثر لطفاً من السوسيولوجيا والتأريخ. فالتأريخ يجب أن يقف على منهج وكذلك السوسيولوجيا، التي يجب أن تحمل رسالة سياسية أخلاقية نبيلة في النهاية، بالمعنى الدوركهايمي للسوسيولوجيا. وإن كانت الحداثة كما يقترح المقيم على المتوسط في الستينيات، أمراً يمارس يومياً على نحو ما، قبل أن تكتب سيرة الحداثة وتقرأ، فإنّ الحداثة تبقى بحاجة إلى مراجعات من خارج الأدب. وهذا، ربما، يفسر، لماذا يعتبر أنطوني غيدنز ــ وهو أحد دارسي الحداثة وشارحيها ــ أن فهم السوسيولوجيا تحديداً هو الذي أدى فهم التحولات في العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة. لكن غيدنز كان يتحدث عن السوسيولوجيا في العالم، عن ثنائية ماركس وفيبر، وعن الرأسمالية والمجتمع، بوصفها أكبر التحولات التي يجب فهمها. المدينة التي نتجول فيها تقع على المتوسط، وتقع داخل العالم الرأسمالي. لكن زيادة في مدينة على المتوسط لم يكن راغباً إطلاقاً في تحليلٍ يضعه في موقعٍ غير موقع الشاهد: «في هدمهم السرايا، كانوا يتخلون عن جزء من التاريخ في سبيل جزء آخر. هكذا كان دأبهم أبداً، يخفضون حقبات من التاريخ في سبيل إعلاء حقبات أخرى. وهدم رموز من العمران في سبيل تشييد رموز للحداثة التي لا تستطيع أن تضاهي سابقتها في المرتبة والجدارة». أحياناً، تقفز النصوص بمهارة إلى منصة الحداثة وتنزل عنها بالرشاقة نفسها: «جرى في وقتٍ متقارب نزع كثيف للحجاب والطربوش. كان ذلك في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. في الفترة نفسها نزحت المدينة، أو أغلب عائلاتها من الأحياء الداخلية التي شهدت ولادة آبائهم وأجدادهم إلى منازل جديدة في أحياء شقت طريقها وشوارعها للتو». يصح التعامل مع هذه «المعاينات» كملاحظات أنثروبولوجية على هامش النص الأدبي، فقط لأنه تحرر من أغلال الميتودولوجيا. لكن في «المدينة العربية والحداثة» (رياض الريس ــــ 2019)، سيعود خالد زيادة ليصحح أي «انطباعات» غير علمية، سببها الأدب التي اتكل عليه لتحريك البحر الراكد في الصورة، طرابلس المعلّقة على شواطئ المتوسط.



البحث عن «الحداثة»
في «المدينة العربية والحداثة» (رياض الريس ــــ 2019)، ينطلق خالد زيادة من سؤال إشكالي واضح: «هل ما زالت مدارس علم الاجتماع قادرة على تفسير المدينة وتحولاتها، أم أننا نحتاج إلى إعادة نظر في المفاهيم والمناهج؟». قد تبدو الإجابة سهلة من وجهة نظر بنيوية، لكن المسألة معقدة وشائكة. وربما كان منهج زيادة نفسه في كتابه بنيوياً. في المدخل البحثي الذي يحمل عنوان «المدينة الإسلامية: الإشكاليات والمصطلح»، يقارب أصل تسمية المدينة بالإسلامية، وتقوده الخلاصات إلى جملة أفكار، ربما يكون أهمها مفيداً لدحض الاستشراق. إذ أن «مقارنة المدينة الإسلامية بالمدينة الأوروبية كان يهدف إلى سلب المدينة الإسلامية أصالتها وتجريدها من هويتها، أو الإقلال من أهميتها، ولا أدل على ذلك من بحوث سوفاجيه وغروبنباوم وكزافيه دو بلانهول». العمل البحثي يوفر فرضيات عديدة ضدّ المركزية الأوروبية. في البحث عن «المدينة الإسلامية»، يشير البحث إلى أن عدد سكان اسطنبول في 1480، في نهاية عهد محمد الفاتح، لم يكن يتجاوز الثمانين ألفاً، لكنها ضمت في عهد السلطان سليمان القانوني (بعده بنصف قرن فقط) أكثر من 400 ألف نسمة.ويذكّر بأنه بينما كانت أوروبا تطرد المسلمين واليهود وتقيم محاكم التفتيش، كانت اسطنبول المدينة الأكثر انفتاحاً على التنوع الاثني والتعدد الديني، وهذا مدخل ضروري لأي نقاش سياسي وأخلاقي عن تحولات المدن. وعلى عكس كتاب «مدينة على المتوسط» الذي تجنب التفاصيل والتفكيك، واكتفى بالعرض والسلاسة، يعود زيادة في «المدينة العربية والحداثة» تحت عنوان «الأعيان، العلماء، المدنيون، العسكر»، إلى رصد صعود طبقة الملاك البيروقراطيين، المتزامن مع تحولات القرن التاسع عشر الكبرى، وأهم هذه التحولات في مدننا كان ازدهار التجارة مع أوروبا. يقود هذا إلى إشارتين. الأولى: تفسير انتقال القوة في المدينة من الأسواق الداخلية إلى الأحياء الجديدة، التي تطبّعت بمظاهر أوروبية، وخاصةً في ظلّ عدم قدرة السلعة المحلية على المنافسة، وتالياً إلى فهم علاقة الملاك الجدد بوسائل الإنتاج.
والثانية، فهم جزء أساسي من الصورة لـ«مدينة على المتوسط»، أو السيرة نفسها التي نشرها خالد زيادة قبل عام.