عاد والدي من القامشلي محملاً بأكياس ورقية كثيرة مليئة بالفواكه والخضر والفستق السوداني والكستناء وثمرة واحدة (جوز الهند)، بالإضافة إلى الزبيب القادم إلينا من حقول العنب في القرى الكردية في أطراف وَانْ وماردين. وحين سألت أمي عن السبب، قالت: الليلة ستبدأ السنة الجديدة. لم نجهز مثل سكان الأحياء الراقية الألعاب النارية وأشجار الميلاد، بل مثل كل الأطفال الفقراء انتظرنا أنا وإخوتي حلول المساء للهجوم على وجبة البرغل الكردي والفريكة ولحم الديك الرومي. أتذكر تلك الليلة بكل تفاصيلها. بعد التهام كل شيء، نمنا قبل حلول منتصف الليل بعدما قبلتنا أمي قبلة سريعة ونامت قبلنا.وفِي نهاية عام ١٩٩٢ كنت في بيروت. وفِي اليوم الأخير من كانون الأول (ديسمبر)، قررت الاعتذار من الأصدقاء وعدت إلى دمشق في سيارة أجرة كانت مكتظة بالعمال السوريين الذين يعملون في لبنان وعادوا ليكونوا بين أهلهم في نهاية السنة وبداية السنة الجديدة. نزلت في ساحة المرجة وذهبت إلى مقهى الحجاز القريب. تأملت الشام الجميلة وجبال قاسيون وحركة الناس في الأسواق القريبة التي تظل مفتوحة لوقت متأخر. شعرت كما لو أنني في كرصور وبين عائلتي.
التقيت بالصدفة بصديق واستغرب حين عرف بعودتي من بيروت قائلاً: يا رجل كيف تترك بيروت في ليلة رأس السنة، هل أنت مجنون؟ قلت: نعم. فجأة قررت أن أكون تحديداً في هذه الليلة تحت سماء سوريا. كنت وحيداً في الشام، استمتعت بالشوارع الخالية في الفجر والبيوت البعيدة في أطراف قاسيون. مشيت كثيراً، وفِي النهاية عدت إلى الفندق الصغير في ساحة المرجة، وفِي نهار اليوم الثاني غادرت إلى القامشلي. طوال هذه السنوات التي أمضيتها بعيداً عن سوريا، كانت هناك أمنية واحدة: العودة إلى سوريا والاحتفال بعيد نهاية السنة مع الأصدقاء الذين ظلوا هناك تحت سماء دمشق. لكن مع اندلاع الحرب، تراجعت عن هذا الحلم الصغير إلى حلم أكبر. أن تتوقف الحرب ونعود بشراً كما كنّا وتعود سوريا
إلينا.
لا أريد شيئاً من هذه البلاد سوى أن تعود بلاداً أمشي في شوارعها دون خوف، وحين أتعب أسند ظهري لجذع شجرة تعرفني. لا أريد شيئاً من هذه البلاد سوى أن تعود بلاداً ونعود بشراً نحب ونغني وننسى أن نموت. هذا كل ما أريده من السنة الجديدة.
* شاعر سوري مقيم في ألمانيا