لا أزال أنسى أن أشبع من الحزن. لا أزال وحيد هذا القرن، وحيد تحيطه الكتائب والفصائل والأسنان، لأنّ بلاداً تلتهم أولادها بجوع كبير وسائب، بلاد أسنان، لا تعترف بصواب ولا بحياة. لا تعترف إلا بالموت. موت زياد أبو عبسي (1956 ـــ 2018) موت من فاته أن يعلن أنه ملاك، وحين أخفق مات. رجل حاضر على الدوام، رجل غائب على الدوام. رجل مبعثر على الطرقات وعلى قبة بلاد بلا قبة. زياد فكرة طيبة لإنسان طيب، لم يستطع أن يخبئ طيبته في الرمل، ما استطاع أن يحب التدجين، هكذا أصيب بالعطب الأول. بعدها أصيب بالأعطاب الكبرى جراء الأمر. غرق زياد في الصداقات، ولم يستطع بناء صداقات لا تغرق، وهو يتهور باللطف من دون أن يمتلك القدرة على التقافز بالسعادة. وُجد زياد أمس في منزله في منطقة الشويفات. وجد في مظهر لا يزال يخدع. باسمٌ ، غير أنه ميت. مات من سقط رأسه بالصدفة بين قرني العالم، بين قرني الكرة الأرضية. الحزن على موته الأقرب إلى حياته، حزن قطعان على شخص سال بأكبر التجارب المسرحية في لبنان منذ وجد هشاً على طرقات بيروت. لأن الرجل قليل اللغة، قليل الكلام، لأن الرجل ولد في صيدا. وإنّ من لا يولد في بيروت يموت. لأن من لا يولد في المدينة، يتهم بضعف القلب والجبن. قلب زياد قلب سهل وأليف، ضعيف لأنّ الرب هندس بجسده كل الأمراض الصفيقة. السكري والضغط وثرثرات الأعصاب الخاسرة. غير أن زياد لا علاقة له بالامتلاءات الكاسرة، لا علاقة له إلا بفهم ما يؤلم الواقع وما يؤلم الخيال أكثر. هذا الصباح صباح نشاز بموت زياد. ليس بنيّتي أن أفهم لأنني أفهم أن الرجل أدرك أن السعادة أمر شائك. الآن أدرك أن جيل زياد، جيلنا، ليس بمقدوره أن يرمم أي شيء، بعدما قدم كل شيء من أجل أن يفيد البلاد. أن تصبح جديراً بالموت في بلاد الموت، هذه ليست شهوة متعبة. فتح الباب على جثة من قرأ أسباب الأزمات، قرأ حتى مات. فتح الباب على جثة زياد الضخمة، بالرغم من شروط الحمية، يغيّر الأفكار لمرة أخيرة. غير أن موت زياد الحزين لا يدفع إلى نوم الحماسة بالقراءة الأخيرة لما فعله الرجل فوق صفاقة البلاد. داوم أحد أبرز المسرحيين في الثمانينيات من القرن العشرين على تأجيل الكثير من الصداقات، لا لأنه أراد أن يؤجلها، لأن الأصدقاء كتبوا حضوراتهم الفائضة على دفاتر حساب الآخرين. زياد من الآخرين هؤلاء. غير أن هذا الرجل، من لم يمتلك ساقي نعامة، لم يجد إلا في المسرح طبقه الناضج. صاحب الطباع الضاحكة درس المسرح في الولايات المتحدة الأميركية. قرأ كتباً وأكمل القراءة. شاهد مسرحيات كثيرة وأكمل المشاهدة. لم يحلم بنساء من ورق، ولا بالعمل في المسرحيات غير اللائقة. حين عاد إلى بيروت، تابوت الكثير من الأصدقاء والزملاء، ذهب إلى الأقصى بمحض الخاطر. كنَّس أحزانه وأمراضه بحضور كأنه حضور جدة ودودة لأنه لم يعد من أجل أن يضج فقط. هذا الرجل ليس عابراً . هكذا بدا على الدوام.
في مسلسل «بيروت واو» (إخراج وكتابة فادي ناصرالدين)

حضور بالوقت الأهم في الثقافة في بيروت بمسرحية زياد الرحباني «بالنسبة لبكرا شو» (1978). ظهر زياد بدور الأميركي في البار/ البلاد. رجل مالح، غير أنه لا يستطيع إلا أن يبكي من القلب أمام رسوم الأطفال. أرنب من أرانب السعادة في المسرحية. حضور غرفة دافئة بمخيلة شريد على الطرقات وسط زحام العواصف الباردة. ختم زياد الدور بأختام أميركية، بعيداً من الشعر على الإطلاق، لأنه واقعي، والواقع سيده على الدوام، بالأخص في مسرحيات شكسبير. نصوص قدمها على خشبات «الجامعة اللبنانية الأميركية». جاء بشخصية الأميركي، لا من الصندوق، جاء بها من تلك الأيام الثلجية الصامتة في الولايات المتحدة الأميركية. حين راوحت شكسبيرياته بين النشوة والحيرة، حيرة السهول المجهولة بنصوص شكسبير ونشوة العمل على النصوص بالبحث عن شموسها العجوز بالغوص في دفاتر الواقعيات. الواقعية تحليقة أساسية في كل ما اشتغل به زياد أبو عبسي في المسرح. غير أن مسرح زياد الرحباني مسرح حياته ومسرح نوره. نور خارج من وراء الزجاج الملون. تساقطت الواقعية في مسرحيات الرحباني الابن على زياد الواقف على الأعمدة الواقعية كما يسقط ربع الساعة على الساعة. غوص في الزغب الناعم للشخصيات، دخول في الحراشف القاسية للشخصيات. «إدوار» (في مسرحية «فيلم أميركي طويل»/ 1980) المصاب بالرهاب من الإسلام والمسلمين، سجّل خروج أبو عبسي من عتمة الأدوار إلى الفضاء الأوسع. لا كتابات خاطئة عند زياد مع زياد، لأن أيام الحرب أيام معافاة مبهجة على غير ما هي عليه اليوم. خرج زياد من ملكوت العدم كلما أوغل في مسرحيات زياد الرحباني. كل حضور حدث. الطائفي الخائف من المسلمين في مستشفى الأمراض العقلية، لم يقع في فِخاخ التشابه بين شخصية وشخصية، لأنه كتب لكل شخصية دربها. رقص في حوض الخرافات، خرافات الأداء لأن الشغل في المسرح خرافة عظيمة.
لم ينحت زياد أبو عبسي حضوره إلا على حراسة أبواب الجحيم في بيروت. مدينة لا تحسن إلا «إخصاء الفحول» وإعلاء شأن العنينين والعميان. بقيت ملحمته المخبوءة مخبوءة إلى أن رسم بالأظفار حضوره في مسرحية «شي فاشل» (1983). حضر أبو عبسي كما تشتهي الطائرات بدور «أبو الزلف»، من دبرت له المنايا بحيث لم يعد يستطيع السكوت. هكذا أقفل السبل على نور ـــ المخرج المسرحي في المسرحية داخل المسرحية ـــ بمانيفست قطف ملذات اللبنانيين بالتغني بالتراث، والعالم وهم بعيدون عنه. عمر كامل في طلة واحدة. وجد الرجل مذّاك في بساتين نبلاء المسرح. لم يُغرِه الأمر بعدما فتّت صخر المحال بهذه المسرحية. انسكاب على مدى أكثر من عشرين دقيقة لزرع الحكمة الجديدة في وجه الحماقات القديمة. مهلة كاملة لا نصف مهلة في هذه المسرحية. لعب على الجسد والأشياء الواعية في الجسد. لعب على الذروة في سفر بين الجسد والعقل، يحوج كل منهما إلى الرفقة الحسنة والتفاهم الأقصى والتنازلات المتبادلة كأنهما أكثر من ثنائي متناغم يعيش لحظات اللقاء الأولى أو يقف على شرفة الوداع الأخير. الواقع، الواقع، الواقع. الواقع بين زياد الرحباني وزياد أبو عبسي. وجد الزيادان في حلقات زياد الرحباني المجيدة «العقل زينة» (1987 ــ إذاعة «صوت الشعب»). فضاءات إذاعية مدهشة تستكشف الطاقات الخلاقة للصوت على كل متع قراءة الصوت لما بعد الصوت. الصوت عتبة الخيالات العظيمة في «العقل زينة». لم يلبث زياد أبو عبسي أن نما كما ينمو الشجر المجنون في الصحارى البعيدة بين الأعمال المسرحية والأعمال الإذاعية. قدم «جبران» في «صوت الشعب». شيء شبيه بالعبور المفاجئ على سلسلة من آثار جبران خليل جبران، وجد فيها زياد ما ينبه الذهن وما يرهف الحواس ويطلق العنان للأحلام.
«إدوار» المصاب بالرهاب من الإسلام، سجّل خروج أبو عبسي من عتمة الأدوار إلى الفضاء الأوسع


ليست الإذاعة أثينا زياد أبو عبسي. المسرح أثينا نصف الراهب ذي الشعر القصير. المسرح قدره، المسرح نبيذه. كل غياب عن هذه المساحة المألوفة في حياته، غياب عن الحياة نفسها. هكذا وجد المعاني الثقيلة في المسرح، بحيث وجد ذاته الأحوج إليه. سفر حرّ في حياة حرة في مسرح حر. وسط ارتعاش الأوضاع، أدّى دوره في «لولا فسحة الأمل» (1994). رابعة المسرحيات مع زياد الرحباني، لأنها مسرحيات ذات سحن شرقية تقرأ نصوصها بالاحتراف والعفوية في الوقت ذاته، على منصات مصنوعة من رحلات استكشاف بطلتها الأساسية فكرة الصعلكة على الأوضاع المتفجرة وشخصية نور الصعلوك والأغاني الجارحة فيها. وجد زياد في مسرحيات زياد أماكن جديدة تمنح حياة جديدة. اتضحت حكاية الشاب السمين مع زياد الرحباني. وجبات أعياد كبرى لمن اغتنم الفرصة ولم يغتنمها لأنه آمن بعدة صاحبها، ولأنه وجد مقعده في قطاره... مقعد على النافذة. أعرف أن هذا أسهم بأن يتخطى زياد الأخبار الوحشية في نشرات الأخبار والفتن. فتحت هذه المسرحيات العقول والقلوب على ضرورة الاتصال المنتظم بين البشر، وعلى ضرورة التمسك بالحياة الأصيلة. لم يتسلّ العاملون في المسرحيات، إذ تسلى الجمهور بها واعتبرها أجزاءً من نبوءة جديدة بعيدة من البشر العاديين. خير معين للبنانيين على الأحداث المدمرة. لا تزال الصور في الأصوات. لا تزال الأصوات في الآذان.
ما حاول زياد أبو عبسي التثبت من بطاقة الصعود إلى قطار زياد الرحباني المسرحي، إلا في الأيام الأخيرة من مسرحية «لولا فسحة الأمل». تفهَّم مسرح زياد الرحباني وخدمه، غير أنه لم يخدمه في أجزائه الأخيرة. لم يتكلم عن الأمر. كتب بوستاً على الفايسبوك بلهجة محلية تعلن أن فراشته احترقت على ضوء زياد الرحباني.
الأكاديمي، أستاذ المسرح في «الجامعة الأميركية اللبنانية» مع أبرز أساتذة تلك المرحلة ومسرحيّيها، من ليلى الدبس ونورا السقاف ولينا أبيض وغيرهن وغيرهم، شغف بالفلسفة، سارتر وكيركغارد بالأخص. بان الأمر في غنائه، في لهجته الغنائية، كلما تكلم عن الفلسفة والفلاسفة. أحب سقراط لا أفلاطون. وقّع الكثير من المقالات في بعض الصحف المحلية، لأنه محارب غالباً ما ارتدى الكاكي ليحصّل قوت يومه. هكذا اشتغل في بعض الأعمال الباردة كـ «سقوط عويس آغا» (1981) لفيصل فرحات، وبعض المسرحيات الإشكالية ذات النزوع إلى السيناريوهات العليا. «المفتاح» لرفيق علي أحمد مثالاً (إخراج ربيع مروة). سكن الرجل كل المشارب والأحياء، عبّ نبيذ الأيام ورقص كزوربا وتاه بين النصوص، حيث عرف الحب: الحب لبعضها والحب المعذب لبعضها. لم يحلم بالشرائط الهوليوودية وهو يظهر في بعض الأفلام والمسلسلات الدرامية البلدية. ظهوره الأبرز في فيلم نادين لبكي «وهلأ لوين» (2011) بدور رجل دين يعصف بكل الأشياء إلا بالإيمان. نبض الشارع والحياة في المسرح، دراما الحضور في الدرامات. نقل النصوص الكلاسيكية داخل أسوار الجامعات والأكاديميات لأهداف لا علاقة لها بالتعليم، لدعم الأبحاث حول ثقافة العرب في ثقافات الآخرين. استولى على الصورة واستولت عليه الصور في آن واحد. أنزل النصوص الشكسبيرية من عليائها بترجمات راسخة.

لم ينحت حضوره إلا على حراسة أبواب الجحيم في بيروت


لم يشاهد زياد في مقهى ولا في منتدى ثقافي. تزوج وطلق بعيداً من ظلال الكنيسة. أوجعه الطلاق كما أوجعه ألّا تقتصر الحياة على كل ما يسند الكيان. لأنه حين تهدَّد كيانه، اضطر إلى أن يشتغل وراء الواجهة ما يقود خطاه إلى حياة كريمة.
مات الماركسي وحيداً كما عاش. وجدوه وحيداً بعدما تحدث عن حيوية التاريخ طويلاً. رجل على رأسه نار، هكذا هو. روى الرجل أنه غاب بعد كريزة سكري وأنه نهض من مقاعد الغيبوبة بعد ثلاثة أشهر في أميركا. لن ينهض من الموت بعد اليوم، بعدما اجتاز الموت بكبرياء. لأنه الأدرى بأن من لا يعرف كيف يموت، يموت مرات ومرات. وُجد وسط الأشياء المبعثرة على الأرض. تبعثرت أشياؤه وحياته على الأرض. لم يتبعثر جسده لأنه طارد الموت بسرعة كما لو أنه يطارد لصاً هارباً. لم يعضّ على أسنانه من الغيظ، ولم يلتفت إلى الوراء كي يشاهد حياته للمرة الأخيرة. لم يشعر بالخوف ولا بالقلق المباغت ولا بجفاف الحلق. أعرف ذلك، لأن من يعرف زياد يعرف ذلك. مات من دون أن يراه الآخرون في وضع حرج. مات زياد: يقترب الموت أكثر من أولاد جيله. حين أردت أن أقول شيئاً مختلفاً يعبّر عن هذا «السنتر بوينت»، كتبت تغريدة على تويتر: الحياة حبل رفيع، لا عليك سوى أن تتعلم التوازن. هذا صعب، هذا من أصعب الأشياء. غادر زياد غرفة التحقيق بعدما غدر المحققون به. غادر من دون ملفات، كما لو أنه خروف وردي في حكاية أطفال.

* تقام مراسم تشييع الراحل غداً الثلاثاء (الساعة 11 صباحاً قبل الظهر) في «الكنيسة الانجيلية» في منطقة الرابية، ثم ينقل جثمانه إلى مسقط رأسه راشيا الفخار حيث يوارى الثرى في مدافن العائلة. وتقبل التعازي قبل الدفن في صالون «الكنيسة الانجيلية» ابتداءً من الساعة التاسعة صباحاً، وبعد الدفن في صالون «كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس» في راشيا الفخار، كما يوم الأربعاء 21 تشرين الثاني (نوفمبر) في صالون «الكنيسة الانجيلية» في الرابية من الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر حتى الثامنة مساء. وتقبل التعازي أيضاً يوم الأحد 25 الحالي في صالون «الكنيسة الانجيلية المشيخية» (صيدا ـ جنوب لبنان ـ قرب المدرسة الانجيلية) من الـ 12 ظهراً حتى السادسة مساء.