ترجمة وتقديم: محمد مظلومألّفت غيرترود بيل المعروفة بـ «المس بيل» كتاب «سُوريا: البادية والغوطة» عن رحلتها الثانية إلى سوريا في عام 1905، وصدرت طبعته الأولى في عام 1907. ورغم أهميته، إلا أنّه ظل شبه مجهول حتى جرى الانتباه إليه من جديد بعد الحرب في سوريا، فصدر في طبعات عدة جديدة في بريطانيا والولايات المتحدة، كما نشرت ترجمته الفرنسية أخيراً. لقد وصف كتاب بيل هذا بما تضمنه من مقاربات ثقافية وتاريخية واجتماعية بأنه فتح ثقافي مبكِّر للصحراء العربية أمام العالم الغربي.
ولعل مثل هذا التوصيف يوجز العلاقة الملتبسة بين الاستكشاف الآثاري والاستطلاع الاستخباراتي، فإضافة إلى زيارتها للأماكن الأثرية والمدن الميتة وهو ظاهر طبيعة رحلتها كعالمة آثار، نجدها تتعقب مسار سكَّة حديد الحجاز التي أصبحت بعد انضمام العرب إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى عبر ما سمي «الثورة العربية»، هدفاً للتفجير من قبل زميلها لورنس لقطع إمدادات القوات العثمانية إلى عمق الصحراء العربية. وإلى جانب ذلك، ترصد ظواهر اجتماعية وسياسية وعلاقة العرب، بدواً وحضراً، بالسلطة العثمانية آنذاك، وكذلك في ما بينهم من ضغائن وثارات وغارات، فتقارب العلاقات العشائرية في الأردن، وتعرّج أحياناً على الصراع بين آل الرشيد وآل سعود في الجزيرة وأصداء من حرب اليمن. وتلتقي بولاة عثمانيين في دمشق وحلب وقائمي مقام ومتصرِّفين في حمص وحماة والسويداء غيرها، إضافة إلى وجهاء القبائل وشيوخ الطوائف والناس العاديين، وتحدد الأشخاص الذين يمكن «الاعتماد عليهم» في حالة نشوب نزاع مسلح بين الإمبراطوريتين البريطانية والعثمانية. كما ينطوي الكتاب على معلومات نادرة تكشف النقاب عن أصول بعض العوائل الشهيرة في سوريا ومصادر ثرواتها وعلاقتها بالسلاطين والولاة العثمانيين، كما تبحث في أسرار الطوائف والأقليات المحلية من خلال الظواهر والنميمة التي يتحدث بها بعضهم عن بعض وتقارنها بالأصول العقائدية لتلك الطوائف والمذاهب، إضافة إلى تفاصيل يومية ظريفة عن الحياة الاجتماعية في البادية والريف والمدن التي زارتها.
يجمع الكتاب بين السرد الروائي والمذكرات الشخصية وأدب الرحلات، وترصد فيه المس بيل وقائع وأحداثاً تاريخية ساخنة في عصرها، وظواهر اجتماعية وطقوسية بين النقل والتحليل الجيوسياسي، ممزوجاً بربطه بالتاريخ الثقافي والاجتماعي للمنطقة من خلال الشعر العربي والعادات المتوارثة. وبهذا يعد الكتاب مدوّنة نادرة، لتاريخ محلي كان من شأنه أن يبقى شفاهياً ويتلاشى في الأثير، لولا أن التقطته هذه المرأة الغامضة من تلك الشفاه العفوية وصاغته في رواية يمكن إدراجها ضمن تراث «الأدب الكولونيالي».

دمشق: العاصمةُ الخضراءُ على بوَّابةِ الصحراء *

عندما زرتُ «دمشق» قبل خمس سنوات، كان كبير مستشاريَّ وصديقي في «سوريا» هو «لوتيكة» رئيس الدار المصرفية والقنصل الفخري الألماني.
لقد أتاحت لي ملاحظته فرصة لاكتشاف المكانة التي كانت تحوزها المدينة، ولا تزال، في التاريخ العربي. إذ قال لي:
«أنا على يقين، أنَّكِ سترينَ في «دمشق» وحولها أرقى ما يمكن أن يوجد من السكان العرب في أيِّ مكان آخر. فهم أحفادُ المحتلين الأصليين الذين جاؤوا مع أول موجة كبيرة من الغزو، وحافظوا على إرثهم نقياً تقريباً».
«دمشق» أعلى شأناً من جميع المدن الأخرى فهي عاصمة الصحراء. وتمتد الصحراء حتى أسوارها، وتهبُّ أنفاسُها مع كل ريح، وتقترب روحها عبر الباب الشرقي مع كل حادي جَمَل. وفي «دمشق» يمتلك شيوخ القبائل الأكثر ثراء بيوتاً حضرية. قد تلتقي بمحمَّد من «الحسينية» أو «باشان» من «آل الرشيد» وسط البازارات يوم الجمعة الرائعة، وهم بعباءاتٍ مطرَّزة وأغطية رأس أرجوانية وفضية معقودة حول جباههم، منسوجة من شعر الإبل ومزنَّرة بالذهبي. إنهم يرفعون رؤوسهم عالياً، سادةُ البرية هؤلاء، ويشقُّون طريقَهم عبر الحشود في الأعياد، فيتفرَّق هؤلاء ليوسعوا لهم الطريق للمرور، كما لو أن «دمشق» مدينتهم الأصلية. ذلك لأنها العاصمة الأولى للخلافة البدوية خارج الحجاز، وهي تحمل وتحتفظ بأعظم التقاليد العربية. ولعلَّها أولى المدن ذات الشهرة العالمية التي تسقط أمام فروسية الصحراء التي لا تقاوم والتي دعاها محمد إلى السلاح وجعلها هدفاً خاصاً لنداء المعركة، فهي الوحيدة التي لم تفقد أهميتها في ظل حكم الإسلام وبقيت كما كانت تحت إمبراطورية روما.
اتخذها معاوية عاصمة لخلافته، وظلت المدينة الرئيسية للإسلام حتى سقوط بني أمية بعد تسعين عاماً. إنها آخرُ العواصم الإسلامية التي حكمت وفقاً للتقاليد الصحراوية. بينما نصَّب القادة الفرس بني العبَّاس على عرشهم في بلاد ما بين النهرين، وكانت التأثيراتُ الفارسية والتركية مهيمنةً في «بغداد» فتسلَّلتْ معها عادات الترف والدِعَة القاتلة التي لم تعرفها الصحراء أبداً، ولا الخلفاءُ الأوائل الذين حلبوا ماعزهم وقسموا غنائم انتصاراتهم بين المؤمنين. وهي التربة ذاتها لبلاد النهرين التي انبعثت منها قيامات الرجولة الهالكة. ونهضت الأشباح البابلية القديمة ودسائس القصر الآشورية القديمة من قبورها الطينية، القديرة بالشر، لتطيح بالخليفة المحارب، لتجرِّده من درعه وتربط يديه وقدميه بالحرير والذهب.
أما «دمشق» فكانتْ بريئة منهم ونقية من هذا كلِّه. «دمشق» التي اجتاحتها الرياح الصحراوية النقيَّة، فحكمت إمبراطورية الرسول بنوع من الحماسة «الأسبارطية» في الأيام المبكرة. إنها ليست محدثة نعمة مثل بقية العواصم على نهر دجلة، فقد رأت ملوكاً وأباطرة داخل جدرانها، وتعلمت الفرقَ بين القوة والضعف، وعرفت أيَّ مسار يقود إلى السيادة، وأي طريق يؤدي إلى العبودية.
ما أن وصلت دمشق، حتَّى استُقبلتُ بأخبار أن رحلتي في «حوران» أثارت قلق سعادة الأستاذ «ناظم باشا» والي «سوريا». وفي الواقع أنني أُبلغتُ في هذه الأثناء أنَّ هذا المتمرس الكبير الذي وُضِعَ في موقعه بدقَّة، قد تكدَّر بسبب ظُهوري المفاجئ في «صلخد» وأنه أوى إلى سريره عندما مضيتُ أبعد من متناول «يوسف أفندي» مع أن البعض رأى أن السبب الحقيقي لتوعُّك صاحب السعادة المفاجئ هو الرغبة في تجنِّب المشاركة في الحفل التأبيني للأرشيدوق «سيرجي» وأياً كان الحال، فإنه أرسل لي يوم وصولي رسالة مهذبة تعبِّر عن أمله في أن يتشرَّف بالتعرُّف عليَّ.
أعترف أن إحساسي الرئيسي بدا مشوباً بالندم عندما دخلتُ إلى البيت الجديد الكبير الذي بناه الوالي لنفسه في طرف «الصالحية» وهي ضاحية «دمشق» التي تمتدّ على سفح التلال الجرداء إلى الشمال من المدينة. وقد كانت لدي رغبة كبيرة بالاعتذار، أو على الأقل لأثبتَ له أنه لا ينبغي النظر إليَّ بوصفي عدواً مُولعاً بالتآمر. وَما عزَّز هذه المشاعر ذلك اللطف الذي استقبلني به، والاحترام الذي يغمر به أولئك الذين يتعرَّفون عليه.
إنه رجلٌ ذو مزاج عصبي، في حالة تأهُّب دائم في مواجهة الصعوبات التي تمر بها ولايته والتي يعيها حيث سرعان ما تتمُّ موافاته بها، ولا بدَّ لي أن أكون صريحة بذوقٍ، وحريصة بمشقَّة من أجل التوفيق بين المصالح التي يسهلُ الجمع بينها كما يسهل الجمع بين الزيت والخلّ، فالرجل يركز زاوية عينه بدأب على سيِّد قصره الملكيّ الذي سيتلقَّاها بعناية مناسبة بحيث يتمُّ تمييز شخصية مثل «ناظم باشا» ليستبقيه على مسافة بعيدة من شواطئ «البوسفور». فقد أمضى هذا الوالي ثماني سنوات في «دمشق» فيما مدَّة الحكم المعتادة هي خمس سنوات، ومن الواضح أنه قرَّر أن يبقى في «دمشق» ما لم يباغته حظ سيئ، لأنه بنى منزلاً كبيراً وصمَّم حديقة جميلة، وهو الخيار الذي يُلهي به عقله -دعونا نأمل- عن الانشغالات التي نادراً ما تكون ممتعة.
إحدى ضماناته هو أنه ما بَرِحَ يهتمّ بفاعلية ببناء طريق سكة الحجاز، الذي يوليه السلطان أعمق اهتمام، وإلى أن يتمَّ الانتهاء من بناء طريق السكة أو يجري التخلي عنه، فسيكون مفيداً بدرجة كافية أن يستبقي الوالي في منصبه.
لا يعتقد البازار، وهو ما يمثل الرأي العام هنا، أنه سيتمُّ التخلِّي عنه، على الرغم من معارضة شريف «مكة» وكل قبيلته، الذين لن يقتنعوا أبداً بأحقيَّة مطالبة السلطان بخلافة الإسلام. وهم ليسوا على استعداد لاستدراجه وجعله على تماس وثيق مع العواصم الدينية. لذا فإن البازار يدعم السلطان ضد الشريف وجميع الخصوم الآخرين، مُقدّسين كانوا أَم مُدنَّسين.
لا يتحدَّث «ناظم باشا» العربية، رغم أنه أقامَ ثماني سنوات في «سوريا» ونحن، في أوروبا، نتحدث عن «تركيا» كما لو أنها إمبراطورية متجانسة، أو كما لو أننا نتحدث عن «إنجلترا» ونقصد أن نشمل بالكلمة: «الهند» وولايات «شان» و«هونغ كونغ» و«أوغندا». بمعنى أن الأرض التي يستوطنها الأتراك بشكل رئيسي ليست في تركيا نفسها، فهي أجزاء من المناطق الواقعة تحت هيمنتها، حيث يشكِّلُ فيها الترك أقليةً بين الأغلبية، وعموماً فإنَّ وضعها هو وضع الأجنبي الذي يحكم، بحفنة من الجنود وخزينة فارغة، مجموعة مختلطة من الرعايا المناوئين له، ولبعضهم البعض كذلك.
في المناصب العليا، ثبت أن التسلسل الهرمي الوظيفي للإمبراطورية العثمانية مختلّ للغاية، وأن تلك المناصب تعجُّ باليونانيين، والأرمن، والسوريين، وشخصيات من جنسيات شتى محترمة عموماً في الشرق لكنها غير موثوق بها (وليس بدون سبب).
والحقيقةُ التي تحتم بأنَّ مثل هؤلاء الرجال سيترقُّون إلى وظائف في قمة ذلك الهرم بالضرورة، تشير إلى سبب فشل التركي. وعدم استطاعته إدارة سلالات واسعة، رغم أن بإمكانه تنظيم مجتمع قروي محلي. وفي المقام الأول لا يستطيع إدارة السلالات الأجنبية، وللأسف فقد استفاد أكثر وأكثر من الاتصال مع الأمم الأجنبية. حتى أن رعاياه أصيبوا بعدوى التقدم. فأصبح «اليونانيون» و«الأرمن» من التجار والصيارفة، و«السوريون» من التجار وملَّاك الأراضي يجدون أنفسهم يُعرقلون عند كل منعطف من قبل الحكومة التي لا تُدرك أن الأمة الغنية تتكون من أشخاص أثرياء. وبالرغم من كل فشله هذا، إلا أن من الواضح أنه لا يوجد بديل ملائم ليحل محله. ولغرضي المباشر، أتحدث عن «سوريا» فحسب، الإقليم الذي أنا أكثر دراية به.
ما قيمة الجمعيات العربية والمنشورات التحريضية التي تُصدرها المطابع الأجنبية؟ الإجابة سهلة: إنها لا تساوي شيئاً على الإطلاق. فليس هناك أمة عربية. فالتاجر السوري تعزله هوة شاسعة عن البدوي أكثر مما تفصله عمن هو من أصل عصملي، فالبلاد السورية مأهولة بسلالات عربية تتوق إلى أن تكون أصواتها موحَّدة، ولم يمنعها التركي من إنجاز رغباتها الطبيعية إلا بالجندي نصف الجائع الذي يرتدي الأسمال، ويستدرّ في فترات متباعدة راتب السلطان.
وهذا الجندي، سواء أكان كردياً أم شركسياً أم عربياً من «دمشق» فإنه يستحق أكثر بكثير مما يتلقَّاه من مردود.
ليس ثمة مشهد أكثر دهشة وإثارة للشفقة من مشهد فوج تركي في المسيرة: شيوخ بلحى غزاها الشيب وفتيان أغرار، حفاة غالباً مرهقون ورثَّو الثياب ولا يمكن قهرهم-دعونا نشاهدهم يؤدون التحية العسكرية وهم يمرون-في الأيام التي كانت فيها الحرب فناً أكثر منها علماً، صُنِعُ غزاة العالم من هذه الحثالة.
لكني تركتُ محافظ «سوريا» ينتظر طويلاً، تحدَّثنا، بعد ذلك، بالفرنسية، وهي اللغة التي كان ملمَّاً بها نسبياً، ويساعده من وقت إلى آخر شخص سوري على ارتقاء السلالم بالتركية، وعلى عثرات اللسان الأجنبي.
ذلك السوري هو أحد أصحاب الأراضي الموارنة الأثرياء في «لبنان» الذين حظوا بسمعة طيبة في مقرِّ الحكومة على الرغم من أنه قضى مؤخراً عاماً كاملاً في السجن. كان قد رافقني في زيارتي، وقد عيَّنه الوالي آنذاك ليصبح دليلي السياحي في «دمشق». وكان اسمه «سليم بيك»
دار الحديث أساساً عن علم الآثار، فأنا أصرّ على اهتمامي بهذا الموضوع بالمقارنة مع سياسات الجبال والصحراء، التي تجنَّبنا من خلالها أي تلميح جدِّي.
كان الوالي دَمِثاً. وقدَّم لي صوراً للمخطوطات التي لا تقدر بثمن الموجودة في قبة الخزنة في الجامع الكبير، والتي أصبحت الآن محجوبة نهائياً عن أعين الناس، ووعدني ببقية السلسلة. ولهذا الغرض، أخذ شخصٌ، وهو مُنحنٍ، عنواني في «إنكلترا» ودوَّنه بعناية في دفتر الجيب، ولعل من نافل القول أن أقول إن هذا الشخص هو آخر من سمعَ عن الموضوع.
قبل أن أغادر، وصل شخصان متميزان يرغبان بمقابلة الوالي. الأول رجلٌ ذو سحنة أقرب إلى الزنوج، لكن بمظهرٍ لا يبدو عليه إنه من ذلك العِرْق، ونظرة خاطفة وحادة. إنه الأمير «عبد الله باشا» بن «عبد القادر الجزائري» العظيم، من أَمَةٍ سوداء. والثاني هو الشيخ «حسن نقشبندي» الرئيس الوراثي، أو البابا كما أفضِّل أن أسميه، لنظام إسلامي تقليدي مشهور في «دمشق»، حيث تقع تكيته الرئيسية الآن. وقد أشرق الدهاء الكهنوتي الماكر بأسره من طلعة هذا الفاضل.
لقد أتاح لي اللقاء مع هذين الشخصين تقديمي لمجتمع «دمشق». ووجه إليّ كل منهما دعوة وديَّة لزيارتهما في منزليهما، أو في «التكية» أو أي مكان آخر، وقبلتُها كلَّها، لكنني ذهبتُ أولاً إلى الأمير «عبد الله» أو بالأحرى، ذهبت إلى منزل أخيه الأكبر أولاً، الأمير «علي باشا» لأن «الأمير عبد القادر» أقام هناك. وهناك آوى ألف مسيحي، إبان الأيام السود لمجازر سنة 1860. وهو ما نسج حول اسمه هالة رومانسية من الشجاعة والوطنية، مكلَّلة بالحكمة وبعهد مشرّف مليء بالسلطة والقوة اللتين أرساهما بالثروة، ذلك أن عائلة «عبد القادر» تملك كل الحيِّ الذي يقيمون فيه.
البيت، كأيّ بيت كبير في «دمشق»، وقد فُتحت جميع الغرف الكبيرة في هذا المبنى، وشُرِّعت الأبواب أمامي، وقُدمت لي القهوة والحلويات من قبل الحاجب الشخصي للعائلة، بينما كنت أبدي أعجابي بزخرفة الجدران، وبالمياه الطافحة من الأحواض الرخامية وهي تتدفق عبر قنوات رخامية أيضاً.
في هذا المكان وفي معظم القصور الدمشقية، تحتوي كلُّ عتبة نافذة على بركة تُبقبق فيها المياه، لكي يحمل الهواء معه طراوة منعشة وهو ينسِّمُ في الغرفة.
لم يكن «الأمير علي» في المنزل حين وصلنا، لكن كبير خدم القصر، الذي بدا كأنه خادم قصر فرنسي أنيق، كان لديه إلمام محترم بالطريقة التي يعرف التابع الشرقي تماماً كيف يتولاها، فقد عَرَضَ لنا كنوز سيَّدِه: السيف المرصَّع بالجواهر المقدَّم للأمير الكبير من قبل «نابليون الثالث» وبنادق «عبد القادر» وسيفين من السيوف الثقيلة بِغَمدين من الفضة، أرسلا كهدية العام الماضي من قبل «عبد العزيز بن الرشيد» إذ إنَّ هناك صداقة تقليدية بين الأسرة الجزائرية وزعماء «حائل». كما أرانا أيضاً صور عبد القادر: الأمير وهو يقود فرسانه، والأمير في «فرساي» وهو ينزل مدرج القصر مع «نابليون» مُعتدَّاً بنفسه كشخص منتصر وليس كشخص منهزم، وصورة للأمير شيخاً عجوزاً في «دمشق»، ودائماً هو في الجلباب الجزائري الأبيض الذي لم يتخلَّ عنه قطّ، ودائماً بذات الرصانة والجلال المشرق في الطلعة.
كان ثمة رجل حزين المظهر رافقَنا في جولتنا، من الواضح أنه لا ينتمي إلى المبنى، وقد بدا وجهُهُ كئيباً للغاية لدرجة أنه استرعى انتباهي، فسَألتُ «سليم» عن هويته فأجاب إنه مسيحي، من عائلة غنية، اضطُهِدَ لكي يغيِّر دينِه فسعى طلباً للملاذ عند الأمير «عبد القادر» لم أسمع المزيد عن قصته، لكنَّه تناسبَ مع الصورة التي تركها مكان سكن «عبد القادر» في الذهن: بيت الأشراف، الذي يصونهُ الخدم المدرَّبون جيداً، والمزود بمرافق الحياة والذي يوفِّر الحماية للبؤساء.
صباح اليوم التالي ذهبت لرؤية «الأمير عبد الله» الذي يسكنُ مجاوراً لأخيه. لقد وجدت هناك ابن أخ «عبد الله» الأمير «طاهر» وابن أخ آخر، وقد قُوبِلَ وصولي بالارتياح لأنه صادف أن وجد معهم ضيفٌ مميَّز لا شك أنني أودُّ رؤيته.
كان ذلك الضيف هو الشيخ طاهر الجزائري، وهو رجل مشهور بِعِلمه وسياسته العاصفة والثورية. استدعي على عجل إلى الغرفة العلوية التي كنا نجلس فيها والمفروشة بالأريكة والسجاد، ودخل كالزوبعة، وجلس إلى جانبي وصبَّ في أذني، وفي جميع الأذان الأخرى في الجوار، حديثاً بصوت عالٍ، عن عدم سماح الوالي له أن يتواصل بحرية مع الأجانب الموهوبين مثل علماء الآثار الأمريكيين أو حتى أنا بالذات (لا سمح الله! غمغمتُ بتواضع) كما تحدَّثَ عن عدد كبير من المظالم الأخرى إلى جانب ذلك. وعندما بدا هذا الموضوع جافاً نوعاً ما، أرسل الأمير «طاهر» في طلب بعض مؤلفاته المنشورة وقدَّمها لي.
وفي هذا الوقت، دخل شخصٌ آخر بارز هو «مصطفى باشا البرازي» الذي ينتمي لإحدى العائلات الأربع الرئيسية في «حماة»، وانخرط أفرادُ المجموعة بأكملهم في الحديث عن مخاوفهم، وعن «السياسة السورية». وأمور أخرى، كنت أستمعُ وأنا أنظر من النافذة إلى حديقة الأمير والجدول المنساب عند قدميها، وتساءلتُ ما الذي جعلني محظوظةً إلى هذا الحد لكي أشارك في مثل هذا الدعوة الدمشقيَّة الصباحية.
وعندما انتهت الزيارة خرجنا أنا و«سليم» و«مصطفى» وتناولنا طعام الغداء في مطعم محلي ممتاز في البازار اليوناني، جالسين جنباً إلى جنب مع بدو البادية نتناول أفضل الأطعمة وأطعم فطائر القشطة الشامية بثمن ثمانية عشر بنساً لثلاثتنا، بضمنها القهوة وبقشيش سخي.
كان هناك صباح آخر ليس أقلَّ بهجةً عندما ذهبت مع «سليم بيك» لأقدِّمَ احترامي لرجل عجوز ساحر، وهو الخطَّاط الأكثر شهرة في المدينة بأسرها: «مصطفى السباعي».
يعيش «السباعي» في منزل مزيَّن بذوق رفيعٍ ومرصَّع برخام ملوَّنٍ يعود إلى ما قبل مائتي عام، ومزخرف بالنقوش الناتئة المشغولة بأنماط تشبه واجهة مخطوطة فارسية مُزيَّنة، وقد طُلِيَ بألوان أنيقة ناعمة غلب عليها اللون الذهبي والبني المذهَّب، قادنا عبر غرف الاستقبال إلى غرفة صغيرة في الطابق العلوي حيث اعتاد «مصطفى» الجلوس هناك لنسخ تلك النصوص التي تمثِّلُ صور الشرق المسلم. وقد عُلِّقتْ باستدارةٍ إلى جانب نماذج خطَّتها أيدٍ مشهورة قديمة وحديثة، عرفت من بينها خطَّ صديقي «محمد علي» ابن «بهاء الله» النبيّ الفارسي، فهو في رأيي الخطاط الأكثر براعة حتى يومنا هذا، رغم أن التفضيل الشرقي يذهب باتجاه فارسي آخر من نفس الطائفة الدينية، هو «مشكين قلم»، الذي أعدُّه من بين أصدقائي كذلك.
جلسنا على الوسائد وشربنا القهوة، وتصفَّحنا المخطوطات الرائعة من مختلف التواريخ والبلدان، كان بعضها مكتوباً على الذهب وبعضها على الفضة، وبعضها على الديباج وبعضها على الورق النفيس المرن (العديد من هذه المخطوطات عبارة عن صفحات من النصوص الكوفية المستخرجة من قبة الخزانة قبل أن تغلق)، وعندما صعدنا مع «مصطفى» قدَّم لي ثلاثة نماذج من فنَّه الخاص، فحملتُها بفرح.
ولا يمكنني، وسط كل هذه الصحبة من علية القوم، أن أنسى أصدقائي من الناس العاديين: الأفغاني ذا الضفائر السود المتدلِّية على صفحتي خديه، الذي كان يقدم لي التحية كلما مررت به (يوجد لدى أمير أفغانستان ممثل في «دمشق» لرعاية مصالح رعاياه في موسم الحج) وبائع الحلويات على باب الجامع الكبير، الذي ساعدني مرّة أو مرّتين في متاهات البازارات، وصار يناديني كلما مررتُ به: «ألا تحتاجين سعادتك لترجمانك اليوم؟» أو دراويش تقية «الشيخ حسن» الذين دعوني لحضور صلاة الجمعة. ناهيك عن الفارسي الملتحي الذي يبقى جالساً في مقهى «سوق البزورية» وهو أحد أفراد الطائفة البهائية التي لديَّ فيها العديد من المعارف. وبينما كنت أجلس وأرتشف الشاي الفارسي اللذيذ على طاولته، شكرته بلغته وهمستُ:
«لقد كرَّمتني العائلة المقدَّسة في عكَّا»
فأومأ برأسه وابتسم وقال:
«سعادتك معروفة لدينا»
وعندما هممتُ بالذهاب سألتُهُ عن الثمن فقال:
«ليس هناك أي شيء لتدفعيه»
أقسم أنه لا يوجد شيء يبهج القلب مثل أن تجد نفسك داخلاً في الدائرة السرية للطف الشرقي.
* مقتطف من كتاب «سُوريا: البادية والغوطة» الذي يصدر قريباً عن «دار التكوين»، دمشق.