«تهاوى الباووباب» (شجرة تبلدي) هذا ما كتبه الأستاذ ساليو سي من «مدرسة داكار» في تأبين المثّقف الماركسي الكبير والمناضل سمير أمين. واشتقاق كلمة «الباووباب» عربيّ وتعني «أبو الحبوب/ البذور ». سأعود في هذه المقالة على بعض «البذور» التي نثرها سمير أمين وتبدو لي أساس إرثه الشخصيّ والمشروع السياسيّ والفكريّ الذي تركه إلى جميع المهتمين بشروط التحرّر السياسي والاقتصادي في البلدان العربيّة وبلدان الجنوب بصفة عامة. سأتناول مساهمتين أسياسيتين من ضمن أعماله، تتعلّق الأولى بنقده الجذريّ لنظريّة التحديث التي تركت بصماتها في أدبيات التنمية الاقتصاديّة، وتتناول الثانية نهجه الفكري في اعتبار السيادة الوطنيّة الإطار الأسمى لمقاومة النظام النيوليبرالي.
هل تمثل الثقافة عقبة أمام التنمية الاقتصاديّة؟
حظي دور الثقافة - بمفهوم القيم والعادات التي تميز مجتمعاً عن آخرـ في التنمية الاقتصاديّة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، باهتمام كبير وقد هيمنت نظريّة التحديث على التفكير في هذه المسألة. تبنّى منظرو التحديث، على غرار أرثر لويس (1954) أو بارسنز (1967)، القول بأنّ ثقافة الدول المسماة «متخلفة» (١) تمثّل عقبة أمام التنمية، مُستبطنين ضرورة محاكاة شعوب العالم «الأكثر فقراً، والأقلّ تحضّراً»، لتقدم الأمم «المنتصرة» التقني والاقتصادي والفكري. من هذا المنظور، سيكون مستقبل الدول «المتخلّفة»، ضرورة، ماضي أوروبا الصناعيّة. ممّا يعني أنّ النموذج الإجباري الواجب اتباعه بهدف النموّ الاقتصادي هو النظام الرأسمالي بجميع مكوّناته ومراحله المتمثّلة أساساً في مراكمة رأس المال والتنافس الحرّ والتصنيع. تبعاً لذلك، على البلدان المتخلّفة التملّص من «تقاليدها» الثقافيّة حتى تحقّق «التقدّم»، ويصبح التحديث الذي يُقدّم كمسار كونيّ مرادفاً ضمنيّاً للتغريب.
هكذا تمّت إقامة رابط سببيّ وجوهراني بين الثقافة والتنمية، روّجت له المؤسسات الدوليّة واستبطنته النخب المحليّة على نحو واسع، وسمح بالقفز على المهمّة الصعبة لتحديد وتحليل التعقّد التاريخيّ والبنيوي للروابط بين مختلف العوامل التي يمكن أن تتدخّل في مسار التنمية. وقد استندت أولى عمليات النقد لنظرية «التحديث» إلى إسهامات مدرسة التبعيّة التي وضعت الإصبع على تغاضي مُؤسّسي نظرية التحديث عن العوامل السياسيّة الخارجية التي تعرضت لها المجتمعات المسماة «متخلفة»، مثل الاستعمار والإمبرياليّة. كما حاولت التّدليل على أنّ تنمية الدول الصناعيّة تتمّ على حساب دول الجنوب، فالفقر في «العالم الثالث» هو المقابل الضروريّ لإثراء العالمين الأول والثاني. وكان سمير أمين أحد أشهر المنظرين لهذه التيار الماركسي.
وتناغماً مع هذه الفكرة التي دافع عنها، يُفسّر سمير أمين انسداد مسار المراكمة في الجنوب والتفاوت المتنامي بين اقتصاد هذا الجنوب «الطرف» واقتصاد الشمال «المركز»، بالتبادل غير المتكافئ الذي يهيكل التوسّع العالمي لنظام الإنتاج الرأسمالي (أمين 1973، 1976). ففي الشمال، يتلازم مسارا النموّ والتنمية، بينما يؤدّي اتّباع نفس المنهج في الجنوب إلى «انحلال» بُنى الإنتاج. ويُسفر اشتغال الاقتصاد العالمي على هذا النحو، إلى استدامة حالة تبعيّة الطرف الذي تسيّره «بورجوازيات كمبرادوريّة» هي في الحقيقة «رأس حربة» نصبّتها النخب المهيمنة في«المركز» بينما تتابع هذه الأخيرة هدفاً واحداً هو رفع مكانتها في النظام العالميّ على حساب الأضعف.
ويعود الفضل إلى إسهام سمير أمين ورفاقه في مساءلة مسلمات نظريّة التحديث التي تقوم عليها نظرية التنمية الكلاسيكيّة التي تفترض وجود مسار خطيّ مُشبع بالقيم الغربيّة ومزدرٍ للخصوصيات الثقافيّة المحليّة. وقد تبنّى سمير أمين تحليلاً ماركسيّاً، يشدّد على أهميّة تجنّب إسقاط تاريخ الشمال على الجنوب، كثّفته عبارته الشهيرة «الجنوب معرقل، وليس متخلفاً».
ويدافع سمير أمين عن مبادئ هدفها الأوليّ بناء نظام إنتاج وطني سيادي، مؤسس على التصنيع والعودة إلى الفلاحة الإيكولوجيّة. لكن من الضروريّ القول إنّ التنمية لا تكون في أغلب الأحيان ذاتيّة وداخليّة المنشأ إلاّ نظريّاً، طالما لم تواجه هيمنة العلاقات العموديّة بين المستعمرات القديمة والدول المركز بتنمية وتوطيد روابط التعاون بين دول الجنوب.

السيادة الوطنية، الجرعة المرّة للنظام النيوليبرالي؟
من بين تفسيرات سمير أمين لهذا العجز في تحقيق تنمية ذاتية محلية هي المشاريع الممنهجة التي يتبناها المموّلون الدوليّون والمؤسسات العالميّة للحطّ من جميع الإجراءات الضروريّة للوصول إلى نظام اقتصاديّ أكثر مساواة: الحمائيّة، الرقابة على أسعار الصرف، تحفيز الدولة للاقتصاد، الخ. فبينما مثّلت تلك الوصفات جزءاً من الآليات التي استخدمها الشمال لتحقيق التنمية، يبذل نفس الشمال جميع الجهود لمنع الجنوب من اللجوء إليها. في كتابه الأخير المنشور عام 2017 بعنوان «السيادة في خدمة الشعوب – الفلاحة الإيكولوجيّة، صوت المستقبل»، يواصل سمير أمين التفكير في الاستراتيجيات اللازمة لوضع نموذج تنمية وطني سيادي متحرّر من جميع أصناف الوصاية الاقتصاديّة والسياسيّة، ويشير إلى سوء الفهم المحيط بفكرة السيادة الوطنيّة التي اختصرت بشكل متعسّف في بعدها الوطني البرجوازي أو الوطني الهوياتي إن لم نقل الفاشي. وفقاً لأمين، يبقى إطار الدولة مهماً، بمعنى أنّه توجد ضمنه المجالات والشروط التي تخوّل للنضالات الاجتماعيّة فتح ثغرات في النظام الرأسمالي والدفع ببرنامج تغيير شعبي حقيقي.
فكك الأساطير الاقتصاديّة الكليّة التي تروّج لها المؤسسات الدوليّة وأدبيّات الاقتصاد الطاغية


والرهان بالنسبة له هو التفكير في سيادة وطنيّة والعمل على بنائها، حتى تكون شعبيّة ومعادية للإمبرياليّة وعالميّة، ويشرح ذلك قائلاً: «مفهوم السيادة المقصودة هنا لا يعني السيادة البرجوازيّة الرأسماليّة؛ بل هو متمايز عنها ويجب لذلك وصفها بالسيادة الشعبيّة. الخلط بين المفهومين المتعارضين، ومن ثمّ الرفض المتسرّع لجميع أشكال «الوطنيّة» (القوميّة) دون تدقيق، ينهي أيّ إمكانيّة للخروج من «الأردو-ليبراليّة» (3). وعلاوة على ذلك، يضيف أمين: «لم يشكّل تطور هذه الأنظمة غير نتاج التحوّلات المفروضة ضمن إطار الدول التي تشكلها، ونتاج تطوّر علاقات القوّة بين تلك الدول. وتبقى الدولة «الأمّة» الإطار الذي تجري ضمنه النضالات المصيريّة التي تغيّر العالم». ويعدّ هذا النهج في التفكير اليوم قيّماً وثميناً أكثر من أيّ وقت مضى بالنسبة للشمال والجنوب على حدّ السواء.
في الدول العربية، تجد هذه الأفكار صداها في المطلبين الرئيسيّين للثورات العربيّة، فإسقاط النظام السياسي الحاكم، «الشعب يريد إسقاط النظام»، يتطلب وجود «دولة أخرى» قادرة على تحقيق تطلعات السكان المحليّين، «شغل، حريّة، كرامة وطنيّة». وانطلاقاً من الفرضيّة القائلة بأنّ التاريخ تنتجه القوى الاجتماعيّة والسياسيّة وليس منطق رأس المال، لا يمكن للدولة أن تكون غير مركز للتفاوض حول مصالح متباعدة. بالنسبة لسمير أمين، لا يمكن أن تجد الدولة هامش مناورة لإعادة بناء نفسها إلّا في حال استطاعت النضالات الاجتماعيّة أن توصل إلى السلطة تحالفات غير متجانسة مؤسسة على تنازلات مشتركة بين القوى الاجتماعيّة المختلفة. من جهة أخرى، يدعونا كتابه «الأمّة العربيّة، القوميّة وصراع الطبقات، 1976» إلى التفكير في العالم العربي بوصفه فضاء مشتركاً تعتمد دوله على بعضها، ويقتضي تاريخه الاقتصادي والسياسي وجود مقاومة وبديل مشترك في مواجهة الهجوم العسكري والليبرالي المنظّم.

تفكيك الأساطير الاقتصاديّة التي يروجها المموّلون
من الجدير الإشارة إلى أنّه في إطار أبحاثه حول الدولة القادرة على ضمان التحرّر الاقتصادي والسياسي لمواطنيها، كرّس سمير أمين جزءاً مهماً من أعماله لمواصلة هدف تفكيك الأساطير الاقتصاديّة الكليّة التي تروّج لها المؤسسات الدوليّة وأدبيّات الاقتصاد الطاغية. من ذلك إدانته للنظريّة النقديّة، التي تفرض أن يحدد البنك المركزيّ حجم النقد-العُملة المعروض بحريّة، ويظهر أنّ النقد-العُملة ليس سلعة كباقي السلع حيث أنّ العرض يحدّده الطّلب الذي يعتمد جزئيّاً على أسعار الفائدة. بالنسبة إلى أمين، تعيق هذه التوصيات الماليّة البحتة، التي تركز على محاربة التضخّم و/أو التهرّب الضريبيّ، المساءلة الضروريّة للنموذج الاقتصاديّ النيوليبراليّ الذي يُولّد التفاوت ويجعل التأمل في السياسات الاقتصاديّة الضروريّة لخلق الوظائف والعدالة الاجتماعيّة، مسألة ثانويّة.
على نفس النحو، يندّد أمين بخطاب المؤسسات الدوليّة المهيمن، الذي يركّز حصريّاً على التشهير بالفساد في بلدان الجنوب دون تحليل الميكانيزمات البنيويّة العميقة التي ساهمت في الحفاظ على العقليّة الريعيّة في دول الجنوب. ويذكّر أنّ الفساد في دول الجنوب يمثّل عنصراً جوهريّاً لإبقاء النخب المحليّة السياسيّة والاقتصاديّة في خدمة النظام النيوليبراليّ. بالنسبة له، يرمي الخطاب الأيديولوجيّ المُغلّف بالنزعة الأخلاقويّة الذي يعتبر الفساد «أم الرذائل»، إلى تحييد أيّ محاولة إعادة تشكيل جذريّة وشاملة للنظام السياسيّ والاقتصاديّ السائد في تلك الدول.
ختاماً، وإن كان سمير أمين لا يملّ من تكرار القول إنّ «أسوأ نظام في أفريقيا المستقلة أفضل خمسين ألف مرّة مما يُطلق عليه الاستعمار الجميل»، فإنّ التدخّل الخارجيّ الذي يأخذ شكل الحرب المباشرة تارة والإصلاحات النيوليبراليّة طوراً، يذكّرنا بانتظام بأنّ إشكاليّة التحرير الوطنيّ ما زالت مطروحة بشكل تامّ في الدول العربيّة. فرغم الاستقلال الشكليّ في بعض الدول، تبقى الإمبرياليّة الاقتصاديّة الوجه الآخر للاستعمار، حيث تهدف إلى الإلغاء النهائي لأيّ سيادة وطنيّة. ففي مقال نُشر بتاريخ 27 تموز (يوليو) 2009 (2)، يذكّر سمير أمين بأنّ «ماركس لم يكن قطّ مُلهماً مثلما هو الآن»، ووفاته المفاجئة تذكّرنا أيضاً بأنّ أعماله هو أيضاً لم تكن قطّ مُلهمة مثلما هي الآن لنفهم ديناميات الهيمنة والمقاومة في دول الجنوب وفي الدول العربيّة بصفة خاصّة. بعيداً عن أيّ مقابلة ثنائيّة بين الديمقراطيّة الليبراليّة والنظام الأوتوقراطيّ، يدعونا إرث سمير أمين لإعادة «السيادة الوطنيّة الشعبيّة» إلى صلب البدائل السياسيّة والاقتصاديّة ولمساندة مختلف موجات النضال الاجتماعيّ والشعبيّ التي تقاوم آلة الطحن. ويذكرنا التزامه النضالي والسياسي كذلك أنّ السيادة الوطنيّة لا تتعارض مع اعتماد الترابط الإقليميّ المتبادل وأنّ هذا البديل للنظام النيوليبراليّ لا يمكن أن يتشكّل دون وعي بوحدة المصير التي تجمع شعوب المنطقة العربيّة وأهميّة بناء تضامن نشط بينها.

(١) تعرضت عبارة «تخلّف» إلى نقد واسع على يد المقاربات الماركسيّة وما بعد الاستعماريّة، ولم تعد مستخدمة. عُوضت في ما بعد بعبارة العالم الثالث ثم بعبارة الجنوب
(٢) https://www.legrandsoir.info/samir-amin-marx-n-a-jamais-ete-aussi-utile.html
(٣) اتجاه فكري ليبيرالي ظهر في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث أن المهمة الاقتصادية للدولة هي إنشاء وتأمين إطار يضمن المنافسة الحرة النزيهة واقتصاد السوق.

* أستاذة الاقتصاد في جامعة «دوفين» الفرنسية