لم يكتب محمود درويش مذكراته بشكل صريح، إذ كان يقول بأن سيرته مبثوثة في نصوصه. لكنه تحت وطأة إلحاح الآخرين ربما، اقترب تدريجاً من رسم صورته الشخصية بمقاربتها شعرياً أولاً، وذلك في «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995). ثم أكملها نثراً وشعراً في «في حضرة الغياب» (2006). ما بين هذين القوسين، سنقع على سيرة منهوبة عصفت بها رياح عاتية، اقتلعته من طفولته البعيدة نحو منافٍ كثيرة، و«ورد أقل»، رغم محاولاته «اختراع الأمل»، ذلك المرض الذي لا شفاء منه، إلا أنه كان يائساً في سنواته الأخيرة، كأنه هنا كان يكتب مرثيته الشخصية، هو الذي نفى قبلاً بأنه «شاعر عزاء». لكن محمود درويش كان يكتب عملياً سيرة جمعية للفلسطيني في ترحاله الأبدي، مستنفراً الموروث الملحمي للأسلاف بأوركسترا كاملة، فهو الكنعاني التائه، والشاعر الفرد في عزلته، والعاشق المخذول لأرضٍ مسروقة كانت تنأى أمام عينيه بيارة برتقال وراء قرية تعرّضت للإبادة. غياب لا نسيان، فههنا ذاكرة محتشدة بالصور المفجعة، وليس من وليمة إلا التراجيديا في بناء عمارته الإيقاعية «ونجونا من موت كثير، وهزمنا النسيان، وقلت لك نحن ننجو ولا ننتصر، وقلت لك: النجاة هي انتصار الطريدة الممكن على الصياد.. وسال دمٌ غزير على السواحل والصحارى.. دمٌ فاض عن حاجة الاسم إلى هوية، وحاجة الهوية إلى الاسم». رحلة عوليسية قادته من منفى إلى آخر، ومن موت مخاتل سيتمكّن منه أخيراً، في منفى آخر، لكنه في الوقت المستقطع للموت، سيعمل على «تجميل ما احتجب من المشهد». وأمام أنياب الحصار، سيهتف: «ثم ماذا بإمكان الشعر أن يفعل أمام جرّافة التاريخ؟». «في حضرة الغياب»، سيتنبأ الشاعر بموته قائلاً: «فلأذهبْ إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه غيرُ أسلافي». وفي رؤية أخرى: «يوقدون الشمع لك/ فافرح، بأقصى ما استطعت من الهدوء/ لأن موتاً طائشاً ضلّ الطريق إليك/ من فرط الزحام... وأجّلك». محمود درويش في صورةٍ أخرى: أن تكتب الفجيعة الفلسطينية بأعلى طبقات البلاغة.